الخميس، 2 مايو 2019

رواية "بريد الليل"... حين تصير الأشياء أعقد مما نظن


بعيدا عن الجدل الدائر حول أحقية رواية "بريد الليل" بجائزة البوكر، وبعيدا عن مصداقية هذه الجائزة، بعد تسريب نتائجها قبل موعدها، تأتي هذه القراءة النقدية التي تهتم بالنص الروائي، بعيدا عن حكم القيمة.

  
إن رواية "بريد الليل" للكاتبة اللبنانية هدى بركات، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية لسنة2019 هي رواية مونولوجية بامتياز، تعتمد تقنية الرسائل في نقل حكاياتها المتشعبة، وتعد الرسائل صيغة تخاطبية بين المرسل والمرسل إليه، وهي –كما يقول تودوروف- إحدى مقومات الرواية التي تطلعنا على كافة وجوه الشخصيات، إذن، لمن يوجه سارد "بريد الليل" رسائله ؟

     تعد رواية "بريد الليل"، بمثابة البيان الأدبي الذي يفضح قبحنا المستور بغلالة رفيعة، يمكن لهبّة الريح الأولى أن تمزقها، فحين هبّت ريح "الربيع العربي" على بعض دولنا العربية، كشفت واقعنا المرير الذي يمكن لكل واحد منا أن يحوله إلى رسالة يرسلها إلى أحد ما، لكن ولسبب ما، لا تصل رسائل شخصيات هذه الرواية إلى وجهتها، وتضيع في أماكن مجهولة، ويعثر عليها آخرون، فتحفزهم على كتابة واقعهم في رسائل خاصة بهم.

     تركز الرواية في سردها على قصص المهمشين والمنبوذين اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وتسرد ما تعرضوا له تحت وطأة الظروف القاسية؛ سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وكذا الثقافية، فتنقل أشد صنوف العذاب والاضطهاد والتنكيل الجسدي والمعنوي، مما اضطر هذه الفئة إلى مغادرة الوطن إلى الضفة الأخرى، التي لم تكن بأحسن حال في معاملتها للآخر المختلف عنها، إذ تبرز مشاكل عديدة ومتنوعة للشخصيات، تنتهي بهم إلى مصير معتّم، لا يحمل للقارئ يقينا قاطعا، بل يغلّب منطق الاحتمالات.

     استطاعت رواية"بريد الليل" أن تعري كل الشرّ الكامن في الإنسان، إذ تعرض علاقات أسرية مفككة، حيث تبيع الأم ابنتها وحفيدتها من أجل المال، والأب يسلم ابنه لارضاء الحاكم، والابن الشاذ يعاتب والده على معاملته السيئة، واللاجئ يقتل المتعاطف معه لسرقته..إلخ. وفي خضم هذه الحكايات المتواترة على ألسنة شخصيات عديدة، نلمس غياب الحب؛ العنصر الأساسي الذي يجمّل الحياة ويساعد على تجاوز الصعوبات، ولأنه زمن الحرب والتشرد والقهر، تهدمت القيم الإنسانية، وحتى الحب الذي تعرضه الرواية، هو الحب الذي تتحكم فيه الظروف الاقتصادية والسياسية، فتمنع اكتماله، أو تختزله في صوره المادية التي تفي بحاجة الجسد، دون الاهتمام بتكوين العلاقات الأسرية التي تتحطم بفعل عوامل كثيرة.

غياب معالم المكان الروائي .. وتعتيم زمن الحكي
 تعتمد الرواية على البوح والتداعي النفسي، حيث تسرد كل شخصية قصتها معتمدة على ضمير المتكلم الذي يعد"علامة على تطابق الشخصية مع السارد"، فنحن أمام اعترافات لشخصيات متعددة، تمنح الرواية صفة الرواية البوليفونية بتعبير "م.باختين"، وهي الرواية التي تشترك في أحداثها عدة شخصيات، وإن كنا هنا، لسنا بصدد شخصيات تعارض غيرها من الشخصيات وتخالفها في الرؤى، إذ لكل شخصية حكايتها الخاصة وأحداثها المستقلة. لكن هل نحن بصدد أحداث كما هو متعارف عليه في الروايات؟ الأكيد أننا بصدد سرد أفكار تتعلق بالكلام الداخلي للسارد، وتتمدد هذه الأفكار لتأخذ شكل التحليل، أو ما يسمى "بالخطاب الداخلي المسرّد"، حيث تتقلص أفعال السارد، في مقابل تدفق مشاعره وأفكاره وذكرياته التي تنقل عن طريق المونولوج الداخلي.

     تعاني الشخصيات من ظروف قاسية، تحولها إلى شخصيات مأزومة، وتجبرها على خوض مسالك لم تظن في يوم أنها قد تسلكها، تقول إحدى شخصيات الرواية، وهي امرأة أجبرتها أمها على الزواج من رجل غني، أساء معاملتها، فتطلقت منه، واضطرت لترك ابنتها عند والدتها والسفر إلى الضفة الأخرى، لتوفير المال، فاشتغلت بتنظيف الفنادق، ثم لجأت إلى العمل كمومس، تقول:"هذه ليست حياتي، لا أدري كيف انزلقت فيها، ولا من دفعني لأتسربل بمصيري هذا وأقفل كل الأبواب ورائي".
     مع أول عثرة، الكل ينزلق إلى حياة ليست حياته، هكذا هو حال أغلب الشخصيات، وما يحمد للرواية، أنها خلقت خيطا رفيعا يربط بين هذه الشخصيات التي لا يعرف أحدها الآخر، لكنها تتشابه في ظروفها القاسية، يتجلى ذلك في عثور بعض الشخصيات على رسائل البعض الآخر، واطلاعه عليها، واقراره بتشابه ظروفه مع تلك الشخصيات.

     تظهر أغلب الشخصيات بلا ملامح تميزها، ولا أسماء تعينها، لكنها تشترك في ظروف الحياة القاسية التي حولت بعض الشخصيات إلى وحوش، بسبب هول العذاب الذي تعرضت له، مثل ذاك السجين الذي جرّوه من بيته، أمام والديه بسبب وشاية كاذبة، مفادها أنه شتم الحاكم، فانهال عليه الجلاد ضربا، وأذاقه كل صنوف العذاب، وتعرض للاغتصاب، وفي الأخير أصبح مواطنا صالحا، إذ قبل أن يتجند عندهم كمخبر، وكجلاد يذيق الآخرين ما ذاقه من العذاب.

     يغيب المكان بالمفهوم الكلاسيكي، وتحضر ملامح أمكنة بلا معالم، تشير إلى أوطان هبت عليها نسائم "الربيع العربي"، المطالبة بالحرية، لكن قمعت الأصوات المعارضة للسلطة، وعذّب أصحابها في غياهب السجون التي لا وصف يجسّدها في الرواية، سوى أنات المعذبين وتوابيت الراحلين تحت وطأة التنكيل. تحضر أيضا، أمكنة من الضفة الأخرى؛ كالفنادق والبيوت والمطاعم والحانات.. لكنها بلا معالم تدل عليها أو تصفها. إننا بصدد رواية اللامكان واللازمان، وإن كان الزمن يظهر ويختفي، فحينا، هو زمن الثورات العربية ومحاولات الإطاحة بأصنام السلطة، وما نتج عنها من هجرة أو تهجير للشعوب المنكوبة بالحروب، وأحيانا أخرى نحن أمام ما يعرف بظاهرة داعش.. إلخ، كل ذلك يعدّ من المؤشرات الزمنية الدالة التي قد توحي بزمن وقوع الأحداث، لكن لا يمكننا الحديث عن زمن محدّد وواضح للرواية، لأننا بصدد قصص متنوعة، وقعت في فترات زمنية متباعدة، والخيط الجامع بينها هو، القهر والظلم والاضطهاد المسلط على الإنسان العربي، من السلطة أو من المجتمع.

     نخلص إلى أن رواية "بريد الليل"، لا تقدم للقارئ حلولا، بل تراكم لديه المزيد من الأسئلة، وتقول له على لسان "ميلان كونديرا": "إن الأشياء أكثر تعقيدا مما تظن".

..
المقال منشور في : المجلة الثقافية الجزائرية
الرابط/