الاثنين، 24 أغسطس 2020

توظيف اليومي في رواية "صيف أفريقي"، للكاتب الجزائري محمد ديب


كدأب الكتاب الواقعيين، انشغل الكاتب محمد ديب في رواياته، بتصوير الواقع اليومي لحياة الجزائرين في ظل استعمار غاشم، مجسدا بذلك ما قاله بلزاك عن هدف الواقعية في الأدب؛ أن تصبح التعبير عن التفاهة اليومية. وبالمفهوم الإيجابي لمعنى التفاهة اليومية، تتحول التفاصيل التي يُسلّط عليها الضوء، في روايات ديب، إلى شكل من أشكال النضال ضد الاستعمار الفرنسي. فكيف يمكن أن تكون الممارسة اليومية للحياة، نضالا؟  النضال من أجل البقاء، النضال من أجل فهم الذات، النضال من أجل التحرر.

جواب ذلك، نجده في المتوالية القصصية "صيف أفريقي" التي يظهر في مؤشرها الجنسي بأنها رواية، بينما هي عبارة عن مجموعة من القصص، ترتبط بعض هذه القصص وتتواشج، في حين تنفصل باقي القصص، فلا رابط يجمع بينها. ومن المعلوم أن المتواليات القصصية، لا بد لها من قاسم مشترك يجمع بين قصصها، وفي "صيف أفريقي"، نجد أن القاسم المشترك بينها جميعا؛ صيف حار مضجر مع اشتداد أوار الحرب بين الثوار والجنود الفرنسيين.

تتعدد شخصيات القصص، فتتعدد مستوياتها وبيئاتها وأفكارها ووجهات نظرها، وهي نماذج بشرية مستقاة من عمق الواقع الجزائري، تعاني بعضها من التشتت، والضياع، والمصير المجهول بسبب القهر الذي يفرضه الاستعمار على الجزائريين. في خضم ذلك لا تتوقف الحياة، إذ يمارس الجزائري يومياته المضنية التي تشكل جزءا مهما من النضال الثوري، جاء على لسان إحدى الشخصيات قولها:"حياتنا؟ أية غرابة في حياتنا. إنها تشبه حياة الناس جميعا"؛ حياة عادية لأناس تآلفوا مع وضعهم اليومي، في ظل استعمار ضيق عليهم معيشتهم.

يلتقط محمد ديب أدق تفاصيل الحياة اليومية للجزائرين؛ العائلات الميسورة القاطنة في المدن، حالها أفضل من غيرها، وهمومها اليومية تبتعد قليلا عن هموم الأسر الفقيرة التي تشكل أغلبية السكان الأصليين، وتنتشر في القرى والأرياف. تبدأ صباحات العائلة الميسورة، باعتناء الأم بنباتات حديقة البيت، وبينما تحضّر الخادمة فطور الصباح، تناقش الأم مع الأب مصير ابنتهما التي نالت الثانوية وتود العمل كمعلمة، والأم ترغب في تزويجها من ابن عمها الذي لا هدف له، سوى اللهو.

يقابل ذلك، يوميات عائلة فقيرة في الريف تعيش على وقع الانفجارات الليلية والرصاص، ومنذ الفجر يشد الأب الرحال على حماره، متوجها إلى المدينة ليخبِز الخبز، فيتعرض لمضايقات الجنود على الحواجز؛ تفتيش هويته، وإذلاله برفع يديه إلى الأعلى وتفتيش ملابسه باعتباره جزائريا مشبوها، بينما المارة من الأوربيين يراقبونه بسخرية وتهكم، وحين يسمح له بدخول المدينة، يتوجه لشراء مؤونته وتبادل الأخبار مع الباعة، عن اختفاء بعض الرجال الذين قتلوا أو اعتقلوا، أو هؤلاء الذين التحقوا بصفوف الثوار في الجبل.

يهتم الكاتب بتتبع الظواهر المنتشرة في السوق، حتى تلك التي لا نلقي لها بالا، إذ يصورها بطريقة تعكس نمط حياة الجزائري آنذاك؛ عرافات يمارسن دجلهن، رجال يبيعون العقاقير التي تشفي من كل الأمراض، شحاذون يطوفون المحلات، الباعة المتجولون، بائعات الكعك، الإسكافيون يرقعون الأحذية في الهواء الطلق، باعة سقط المتاع يتبادلون السلع...إلخ، تلك هي جزائر الخمسينيات القابعة تحت الحكم الفرنسي، وذلك هو الشعب الجزائري الذي يبدأ نضاله من إقباله على الحياة، وتحدي الصعاب من أجل الوصول إلى لب القضية، المتمثل في الإصرار على البقاء على هذه الأرض، لإثبات أن لها أهلها الذين يتشبثون بها، رغم التنكيل والاعتقال والقتل، وكلهم ثقة بأن ذلك لن يدوم،"كم سيدوم هذا ؟ليس هناك من يعلم، ومع ذلك فإنني على ثقة(..) أن ذلك سينتهي".

لا تمتلك كل الشخصيات إرادة متساوية لتقبل الحياة، وممارستها كما يفرضها الوضع الخاضع للمحتل، هناك شخصيات قلقة تائهة وسط أسئلة لا جواب لها، تبحث عن ذاتها، عن هدفها في الحياة، عن جدوى التواجد في الحياة من الأساس، "إنني قلقة قلقا رهيبا وليس في استطاعتي أن أحدد سبب ذلك. لماذا نسمح بأن تأتي إلى العالم كائنات لا تعرف ماذا تصنع بالحياة ؟"، حين تضيق مخارج الحياة في وضع يسيطر عليه صوت الرصاص، وآفة العقول المتحجرة التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية، فإن المرأة تنحسر على ذاتها، وتعيش قلقها دون أن تفقد الأمل.

إن الشقاء الذي يولّده القهر الاجتماعي، صنيع الاستعمار الغاشم في تضييقه على حياة الناس، بحواجزه الشائكة وإذلاله للذات الجزائرية والتنكيل بها ظنا منه أن ذلك يكسر إرادتها، لكن الأصوات الحالمة بالحرية لم تخفت، إذ يأتي الصوت مدويا، "إنني أحلم بحياة أخرى بشىء يحلق فوق حياتنا اليومية وبعالم حر"، وهنا يتحول سؤال الذات المضطربة، من القلق إلى البحث عن عالم آخر تسوده الحرية التي تنقص هذا الوطن الأسير، والبحث عن قيمة للإنسان الذي رخصت حياته في وطنه، باعتبار الإنسان هو معيار كل شيء، كما يراه الكاتب. وفي محاولة البحث عن الذات، يكتشف الجزائري ضرورة معرفة واجبه ليقوم به، فكان امتحانه الأول، القضاء على الإدارة الفرنسية الجاثمة على صدر الوطن، والتي لا تدخر جهدا في إذلال المواطن البسيط، لذا جاء الصوت مرددا، «قد يتغيّر ذلك ذات يوم (..) تُرى أيَكون ما ينقُصُنا هو أن يتهيّأ لنا كيان على الأرض؟".

وكما أن في الحروب، لا يمكن أن نجد بطلا خارقا يخوض المعركة وحيدا، إذ لا بد من تآزر كل المجموعة، خلت المتوالية القصصية من البطل المنفرد، وأدت كل الشخصيات دور البطولة، وظلت النهاية مفتوحة على احتمالات المعركة التي يخوضها أصحاب الأرض ضد الغزاة المستعمرين.

فريدة إبراهيم  كاتبة وباحثة من الجزائر

رابط المقال في العربي الجديد

https://www.alaraby.co.uk/%D8%AA%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%22%D8%B5%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%22-%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%AF%D9%8A%D8%A8


الأربعاء، 8 يوليو 2020


الحب والحرب والوطن... في رواية "الانطباع الأخير" لمالك حداد



مع بداية شهر يونيو/ حزيران, مرت ذكرى وفاة الكاتب الجزائري مالك حداد (05/07/1927 - 02/06/1978) الذي أعلن عن منفاه في اللغة الفرنسية، ورغم أنه يكتب بغير لغته الأم، إلا أن كتاباته تعبر عن تراثه الوطني وجذوره العربية، فهو يؤمن بأن الكتابة الإبداعية هي في عمقها كتابة الذاكرة، كما يقول م.برادة، حيث تؤرخ كتابات مالك حداد في الرواية والشعر، لذاكرة وطن وشعب ناضل لنيل حريته. أصدر ديوانه الأول"الشقاء في خطر" سنة 1956، واتسم شعره بالنزعة الإنسانية. 
في سنة 1958 أصدر روايته الأولى"الانطباع الأخير". نالت أعماله اهتماما كبيرا من المترجمين العرب، ومؤخرا من المترجمين الجزائريين، كترجمة الدكتور السعيد بوطاجين لرواية "الانطباع الأخير" الصادرة عن منشورات الاختلاف سنة 2003

ارتكز الخطاب الروائي في"الانطباع الأخير" على ثلاث ثيمات أساسية هي: الحرب والحب والوطن، تتداخل هذه الثيمات فيما بينها، وتبرز من خلال علاقة الشخصيات التي تشكل أحداث الرواية. تبدو الرواية للوهلة الأولى وكأنها سرد ذاتي ينقل قصة خاصة بالبطل سعيد، لكن ما وراء سطورها يوحي بدلالات أعمق، مما تبدو عليه، إذ تنقلنا من التجربة الخاصة إلى تجربة عامة، هي حالة وطن في مرحلة ثورة من أجل التحرر

يمثل الحب قيمة إنسانية، لا يمكن للفن أيا كان نوعه أن يتخلى عنها، فالحب يمنح الفن جاذبيته وسمته الإنسانية. لكن هل يصمد الحب في زمن الحرب؟

شكلت الحرب الثيمة الأساسية في الرواية، إذ استند إليها السرد في تغيير مصائر الشخصيات وربط علاقاتها، وكشف مواقفها وآرائها. وبانطلاق الحرب في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 يتغير وجه المدينة، تحتل الدبابات والقوافل العسكرية والأسلاك الشائكة شوارعها، ويفرض حظر التجول ليحد من حركة الناس. وبذلك تصبح الحرب هي المحكّ الحقيقي لإبراز مواقف الشخصيات المنتمية إلى الوطن والداعمة للثورة، أو تلك المناهضة لها
من الصنف الأول تبرز شخصية بوزيد شقيق البطل الذي التحق بصفوف القتال منذ البداية، بينما أعلن صهره "شريف" معارضته للحرب، وجنوحه للتعايش مع الوضع كما هو، لذلك قرر الهجرة إلى فرنسا، لأن العيش في الجزائر صار مستحيلا،"ليس لنا ما نفعله هنا..هناك على الأقل بإمكاننا العيش بسلام.. هنا لم تعد الحياة ممكنة"
يرى بطل الرواية أن "في كل ذهاب، هناك شيء من الهروب الذي يشبه التخلي عن الواجب"، أما البقاء في الوطن، فهو بطريقة ما، وفاء لمبادئ الثورة.

من خلال موقف "شريف" يطرح السرد وجهة نظر الفئة التي اصطفت مع العدو إبان ثورة التحرير، وهل هي فئة خائنة لوطنها وتاريخها، أم أنها تبحث عن مصالحها الشخصية؟ وفي هذا الشأن، يتساءل السرد: "أين تبدأ الخيانة؟ وأين تنتهي؟ أليست نقصا في المروءة؟ أن تخون معناه أن تشكك في حقيقة الآخرين".
والآخرون هنا هم بوزيد وسعيد والأمهات اللواتي دفعن بأبنائهن للقتال، وكل الشعب الجزائري الذي اصطف إلى جانب ثورته رافضا الاستعمار. من جهة أخرى، يوضح السرد موقف شريف النابع من طيبة وعدم إدراك للحقائق "حاولوا أن تعرفوا لماذا شريف البربري الصغير الذي ركض تحت شجر الزيتون والتين القبائلي، أصبح فرنسيا متوسطا، لقد زعم أن القبائل لا يشبهون العرب. لقد زعم أن الحشيش سينبت في ساحة الحكومة بمجرد أن تنال الجزائر استقلالها".

يعتقد شريف ومَن على شاكلته أن الجزائر لا يمكنها، في حال نيل استقلالها، أن تسيّر إدارتها وستحتاج إلى إطارات فرنسية متخصصة، ومن ثم لا جدوى من الاستقلال. بالإضافة إلى أن شريف البربري ابن هذه الأرض، يعتبر نفسه ليس كباقي سكان الجزائر العرب متأثرا في ذلك، بالسياسة الممنهجة التي اتبعتها فرنسا منذ دخولها إلى الجزائر سنة 183، ومحاولتها جذب سكان منطقة القبائل/ البربر إلى صفها لفصلهم عن العرب، مقنعة إياهم بأنهم لا يشبهونهم، وبالتالي فموقف شريف الرافض للحرب، لم يكن بسبب البحث عن مصالحه الشخصية فحسب، بل ينبع أيضا من اقتناع شخصي مصدره سياسة فرنسا القائمة على مبدأ فرّق تسد التي تتجلى بوضوح في حوار البطل مع بعض الفرنسيين "أنت يا سعيد، أنتم لستم كالآخرين. معكم يمكن أن نتحدث.. عن روني شار وبيتهوفن.. نخاطبكم بضمير أنتم، لا نقطب وجوهنا تقززا.. معكم يمكن أن نتفاهم"، لكن رد سعيد كان حاسما، برفضه التفريق بين الجزائريين "خطأ! إني كالآخرين، إني مع الآخرين.. كل شيء يربطني بهم.. الوحيدون الذين أستطيع أن أفهمهم فعلا، هم أهلي".
يؤسس خطاب الرفض هذا لفشل سياسة فرنسا المبنية على التفريق بين أطياف الشعب الواحد، لتسهل السيطرة عليهم.

ينبني السرد في رواية "الانطباع الأخير" على ازدواجية الخطاب الموزع بين سرد موضوعي وسرد ذاتي، ورغم كثرة شخصياتها إلا أنها مقيدة، يتحكم في حضورها السارد الغائب، فباستثناء حواراتها الخارجية القليلة، يكاد صوتها يختفي من السرد، في مقابل ذلك تحضر مونولوجات البطل بكثافة، عاكسة مشاعره وأفكاره، ما أدى إلى هيمنة السرد الإخباري الذي تقل فيه الأحداث، لنكون أمام حكاية أقوال حسب "جينيت".
يعوض المؤلف الاقتصاد في الأحداث بتكثيف اللغة الشعرية، والاعتماد على الرمز الموحي. يعتبر الرمز من الوسائل الفنية الجمالية التي يعتمدها الروائي لإيصال أفكاره، لما للرمز من حمولات دلالية، تشرك القارئ في تأويل النص ومنحه أبعاده الفكرية.

وظف المؤلف العديد من الرموز بشكل واضح وجلي، أهمها المرأة والجسر.. توظف المرأة عادة، كرمز يوحي إلى الوطن، وقد استعان بها المؤلف بطريقة واضحة، يمكن الاستدلال عليها من خلال شخصيات: لوسيا، ومليكة، وليلى.

من خلال أحداث الرواية، نتعرف إلى علاقة الحب التي تجمع بين البطل سعيد، والمدرّسة الفرنسية الجميلة لوسيا القادمة من بروفانس، وحضورها في الرواية يرمز إلى فرنسا، إلى منظومة ثقافية مختلفة تماما عن منظومة الآخر المستعمَر.
ترتبط لوسيا مع سعيد بعلاقة غير شرعية، مرفوضة من الجميع، وقد بدت قوية في البداية، لكنها سرعان ما بهتت وأصابها الفتور بمجرد إعلان الحرب، وبدء عمليات الاغتيال التي ترد عليها فرنسا بالاعتقال والاغتصاب والتعذيب، ما أدى إلى توسيع الهوة بين الحبيبينلقد أحبت لوسيا سعيد، لكنها كرهت بلده وأهله الذين رفضوا ارتباطها به، وحين أحست بتغير في معاملته لها قررت العودة للعمل في وطنها الأم، هذه العودة المحملة بالدلالات الرمزية الموحية، لا يمكن ورودها في السرد اعتباطا، وقد تزامنت مع اشتداد العمليات العسكرية في المدن بين الثوار وجنود فرنسا، مما تسبب في إصابة لوسيا برصاصة طائشة قبل سفرها، لتعود إلى بلدها في تابوت، وفي ذلك إيحاء لمآلات الثورة، فما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالرصاص والدم، وهو الانطباع الأخير الذي توصل إليه البطل.

وبتغيّب لوسيا عن السرد، تحضر مليكة ابنة الجزائر التي ترمز للوطن والأرض، تخاطب البطل بلغة بسيطة لكنها موحية، "أحبك مذ كنت صغيرة جدا"، ليبذل هو روحه فداء لهذا الحب ولهذه الأرض. تحضر أيضا، شخصية ليلى أخت سعيد، كرمز للإنسان الجزائري الرافض لترك وطنه مقابل العيش الرغيد في فرنسا، إذ ترفض الهجرة مع زوجها شريف، ويساندها سعيد في اختيارها. وكما في كل حرب ينكسر الحب، وينتصر الموت. يلتحق سعيد بصفوف الثوار، بعدما عثر على نفسه وصار "بإمكانه أن يلاحظ أنه يشبه نفسه بغرابة".

ابتعدت رواية "الانطباع الأخير" عن البناء الكلاسيكي التقليدي، لاستعانتها ببعض التقنيات الفنية، ورغم قلة أحداثها، إلا أن توظيف الرمز والاعتماد على لغة شعرية مكثفة أضفيا عليها جمالية مميزة

رابط المقال:
 https://www.alaraby.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%22%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%22

الثلاثاء، 21 أبريل 2020

كورونا والعمى الأبيض لجوزيه ساراماغو


فريدة إبراهيم
19 أبريل 2020


من الصعب أن تخرج سالما، بعد أن تصل إلى نقطة النهاية في رواية العمى لساراماغو. إذ تبدو قراءة الرواية، وكأنها ساحة معركة تدخلها النفس طواعية، لكنها لا تستطيع الخروج منها، رغم محاولة النجاة من عالمها الديستوبي المرير، الذي استطاع السرد أن يتقن تشخيص تفاصيله؛ فالقوي يجهز على الضعيف، والحكومة تتسيد على شعبها المنكوب، تخاطبه بود بينما في العتمة، تشهر سلاحها لتقتله.

بناء على ما سبق، هل يمكننا القول: إن رواية العمى اكتشفت، ما لا يمكن إلا للرواية اكتشافه، حسب هيرمان بروخ، وعلى لسان كونديرا، وهل زودتنا بمعرفة مجهولة، وقفنا اليوم-وبعد مرور ما يزيد عن عشرين سنة من صدورها 1995- على واقعيتها التي كانت ربما، في حينها تبدو مجرد فانتازيا، لكاتب يعذب شخصيات روايته، وذلك بالنظر إلى ما نعيشه اليوم من واقع مخيف، بسبب وباء كورونا الذي تفشى في دول العالم؟

إن ما يُحدثه وباء كورونا في عالمنا اليوم، يماثل في جوانب كثيرة منه، ما شخّصه ساراماغو في روايته عن وباء العمى الأبيض المعدي الذي أصاب كل الذين اقتربوا من أول مصاب، اكتشف فجأة، وهو في سيارته ينتظر إشارة المرور، أنه لا يرى. فانتقلت العدوى إلى الرجل الذي أوصله إلى بيته، ثم انتقلت إلى عيادة طبيب العيون، فأصابت شخصيات الرواية التي تصادف وجودها هناك، بالإضافة إلى طبيب العيون، وهكذا تفشى الوباء بين الناس، لينتهي بإصابة أغلب سكان المدينة. وبسبب عجزها عن احتواء المصابين، وتمدد الوباء الذي طاول الجيش والشرطة، تقاعست الدولة عن أداء واجباتها، وانسحبت من المدينة التي بقيت بلا رقيب ولا نظام، فسادت الفوضى وتغول الإنسان، وأصبح الشر هو الحاكم المطلق، وبرز الاختلال في النظام المجتمعي، وانعدمت الخدمات؛ فاختفى الماء، والغذاء، وغزت القمامة الشوارع، وتكاثر العفن، وتلوث الجو بسبب الجثث المتحللة التي نهشتها الحيوانات الضالة، والجائعة.

وفي المحجر، تعيش الشخصيات المصابة بالعمى الأبيض، على أمل أن يحاصر الوباء في مكان واحد، إذ تلقي الحكومة بهؤلاء المصابين في أجنحة لا تسعهم، وهم في تزايد كل يوم، لذا أصبح الحل الأمثل، هو القضاء عليهم بالرصاص، "كان الجنود يفضلون تسديد بندقياتهم وإطلاق الرصاص، من دون ندم، على أولئك المعتوهين الذين يتحركون أمام أعينهم كسرطانات عرجاء(..) إن مشكلة هؤلاء المحتجزين العميان، يمكن القضاء عليها فقط بالقضاء على معظمهم (..)، تماما كما يبتر المرء طرفا مصابا بالغرغرينا لينقذ بقية الجسد". هكذا، تنظر السلطة الحاكمة، لكل من يصاب بالوباء. وهو ذاته، ما يحدث مع المصابين بوباء كورونا الذي يجتاح عالمنا، إذ تكثر الطرق التي يتحول فيها الإنسان إلى حيوان متوحش. وما تابعناه من قصص وأخبار عن تفكير البعض، على المستوى الفردي أو الجماعي، بالتضحية بكبار السن، أو بالفقراء والمشردين.. باعتبارهم الحلقة الأضعف في الدولة، خير دليل على ذلك. فالإنسان، يعامل كسلعة تباع وتشترى، ويُتخلص من الكاسد منها. بينما يبقى القوي صاحب المال والسلاح، وإن كان وغدا شريرا، وهو ما استطاع ساراماغو أيضا أن يجسده في سرده، من خلال مجموعة العميان اللصوص الذين يمتلكون مسدسا، تمكنوا بفضله من الاستحواذ على طعام بقية العميان، وطالبوهم بدفع ما لديهم من أشياء ثمينة، ليتحصلوا على حصتهم التي تمنحها لهم الدولة، ولما نفد ما عندهم من مال، قايضوا الأكل، بأجساد النساء الموجودات في المحجر.

تعكس هذه المشاهد المؤلمة، وضاعة الإنسان وتوحشه. فساراماغو لم يتخيل هذا الوضع، بل استقاه من واقعنا المعاصر، وهو القائل: "كثيرة هي الطرق لنصبح حيوانات"، يتجلى ذلك في تعامل الدول الكبرى التي تسيطر على مقدرات الدول الضعيفة، بكل الطرق اللاأخلاقية، وتعيد بيع ما أخذته منها بمبالغ باهظة. وهذه الدول ذاتها، نراها اليوم، وقد عجزت عن توفير معدات التصدي لوباء كورونا، بسبب تزايد أعداد المصابين بالوباء، فلجأت إلى تهديد دول أخرى أو سرقة المعدات المتجهة إليها، أو المضاربة على بعضها، لتوفير أجهزة التنفس، دون مراعاة أدنى مبادئ الإنسانية في التعامل والتكاتف، يقول ساراماغو: "عندما تواجه الطبيعة البشرية الموت، يتوقع منها أن يتلاشى حقدها وسمّها"، وهو ما لم يحدث في التصدي لجائحة كورونا، لأن العالم المتحضر، قد أصيب بالعمى الأبيض، إنهم "بشر يستطيعون أن يروا ولكنهم لا يرون"، بهذا المشهد الحواري تنتهي رواية العمى؛ وهو مشهد يفك شيفرتها، ويوجه القارئ إلى الدلالات والمعاني المبتغاة. فرواية العمى موغلة في الرمزية والسخرية اللاذعة حد الألم؛ تسخر من هذا العالم وحضارته المتغولة، وتخليه عن مبادئه التي هي أساس كينونته.


تعتمد الرواية على شخوص بلا أسماء ولا صفات، ولا أماكن محددة، فكل العالم يصلح أن يكون مدينة العميان. والزمن متوقف؛ فلكل شخصية زمنها المتوقف عند اللحظة التي صرخت فيها: لا أرى.

لقد صدق ساراماغو الرؤية؛ فهو الوحيد الذي راقب، بعد أن رأى ونظر. واستطاع أن يزودنا، بما عبرت عنه آذار نفيسي، بالفهم الانتقادي لحاضرنا؛ فالمعرفة الخيالية –حسبها- طريقة لفهم العالم وتكوين صلة معه، إنها تربطنا بماضينا، وتجعلنا قادرين على تصور حياتنا، كما يحتمل أن تغدو عليه.




المصدر : العربي الجديد

https://www.alaraby.co.uk/blogs/2020/4/19/%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D8%B6-%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%B2%D9%8A%D9%87-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%BA%D9%88
تمثلات الهوية في رواية "أنا وحاييم"... للجزائري الحبيب السائح

فريدة إبراهيم / باحثة في الأدب والنقد من الجزائر


تتناول رواية "أنا وحاييم" الصادرة عن دار ميم ومسكيلياني للنشر 2018، والفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية 2019، العديد من المواضيع المثيرة للجدل في الوسط الثقافي الجزائري..منها: مساءلة التاريخ قبل الاستقلال وبعده، الحرية، الفساد، التعايش بين أطياف المجتمع الواحد، وعلاقة الأنا بالآخر المختلف، أي المستعمر الفرنسي، وشخصية حاييم اليهودي الواردة في العنوان. وقبل البدء، يمكننا أن نتساءل: هل تحكي الرواية قصة حاييم اليهودي، أم تحكي قصة كفاح شعب؟ أم أنها تكتفي بطرح الأسئلة؟سلطة العنوان .. وهوية الآخر
مثلت "الهوية والغيرية" إشكالية في المجتمع العربي، خاصة ما تعلق منها بموضوع المواطنة بين أطياف المجتمع الواحد. وتتجسد الهوية في سلوكات الأفراد وطقوسهم الحياتية، وتأخذ أشكالاً عنيفة بحضور الغيرية المضادة لهوية الأنا، لذلك، فإن توظيفها في الرواية كثيمة أساسية غالباً ما تثريها، وهو ما سعى إليه مؤلف "أنا وحاييم"، إذ تجلّى الآخر في عتبة النص الأولى المتمثلة في العنوان.يمثل العنوان المدخل الأساسي لفهم النص، ومنه "تتولّد معظم دلالات النص وأبعاده الفكرية والإيديولوجية". يأتي العنوان في هذه الرواية على شكل جملة إخبارية تتضمن ضمير المتكلم "أنا" الدال على الذات الجزائرية المسلمة، واسم حاييم الذي ينتمي إلى منظومة ثقافية مختلفة، باعتبار أن الأسماء عادة ما تشكل هوية المجتمع وذاكرته، وتقاليده التي تميزه.ارتبط اسم حاييم في المخيال الجمعي الجزائري بكيان محتل اغتصب الأرض وشرد سكانها بالقوة، مما تسبب في رفض اليهودي على المستوى الشعبي والرسمي، ليحدث بذلك التصادم الأول بين القارئ والنص، فهذا العنوان يحيل بالضرورة على مضمون النص، لأنه من العناوين المباشرة الحاملة لأسماء شخصيات توجد في الرواية، ومن هنا تتشكل في ذهن القارئ عدة أسئلة، تثير فضوله وتجذبه للغوص في النص، لمعرفة هوية هذا اليهودي وعلاقته بالأنا، وبذلك يحقق العنوان وظيفته الإغرائية.وبالغوص في النص، يمكن للقارئ أن يتعرف إلى علاقة الصداقة المتينة بين السارد أرسلان حنيفي وصديقه حاييم بنميمون، المنتمي إلى الطائفة اليهودية التي تقطن في مدينة سعيدة. يستعيد السارد بضمير المتكلم تفاصيل حياته بدءا من طفولته ودراسته، ومشاركته كطالب جامعي، في نشاطات الطلبة الذين أسهموا في التحضير لاندلاع الثورة.ولأن الهوية تبرز بكثافة في الأزمات التاريخية أو التحولات التي تشهدها أمة ما، استطاع السرد أن يسلط الضوء عليها بشكل جلي؛ قبل الاستقلال وبعده، فالمستعمر الفرنسي المختلف ثقافيا وحضاريا مثّل "الآخر" لكل من أرسلان وحاييم، فهو لم يفرق في تعامله العنصري بين الأهالي؛ إذ احتل أرضهم وشردهم، وأصر على محو هويتهم، لكن الجزائري تشبث بهويته التي دافع عنها بالسلاح. وإذا كان المستعمر قد منح حق التجنيس لليهود الجزائريين، فإن حاييم رفض ذلك، (لا أشعر بأني فرنسي)، وظل مخلصا لوطنه الجزائر، رافضا عنصرية المحتل ضد الأهالي، مما سبب له عداء الفرنسيين، الذين أحرقوا صيدليته باعتباره عدوا.في مقابل ذلك، وقف حاييم في صف الثورة، وقدم الدواء للمجاهدين، لكن بعد الاستقلال، ظهرت ملامح إعادة تشكيل هوية جديدة، ترفض حتى المواطن الجزائري المختلف في الدين، تجلى ذلك في موقف بعض الأهالي من حاييم الذي أصبح في نظرهم عدوا يجب محاربته، فاقتحموا بيته، لكن صديقه أرسلان تمكن من صدهم بالقوة، معتبرا حاييم مواطنا جزائريا، مثله مثل باقي الجزائريين الذين حاربوا المستعمر، وهنا يبرز الموضوع الأهم الذي سلطت الرواية الضوء عليه؛ وهو تقديم صورة مثالية للتعايش بين أبناء الوطن الواحد، بغض النظر عن اختلاف دياناتهم أو أعراقهم، تجسد ذلك في صداقة أرسلان المسلم بحاييم اليهودي الذي قُدِّم كمثال للرجل الصالح الخالي من الأخطاء، فبدت الرواية وكأنها تعيد ترميم صورة اليهودي في المخيال الجمعي الجزائري، خاصة ذاك اليهودي الذي آمن بقيم ثورة التحرير، ورفض الهجرة،(فلسطين ليست أرضي ولا وطني)، لكن لا ندري إن كانت محاولة الترميم هذه تستلزم تقديم نموذج يهودي جزائري، يتسم "بالتسامي والطهرانية"، زاهدا في ملذات الحياة؛ فحاييم شاب لا يشرب الخمر ولا يدخل الحانات، وفي الجامعة يرفض التجاوب مع الفتيات، وهو عكس ما يحدث مع أرسلان الذي ينغمس في ملذاته بكل حرية، وحين يلوم حاييم، يرد عليه: (احترق أنت لوحدك في هذه الدنيا وفي الآخرة).هذه السردية الموغلة في المثالية والطهارة الخالصة لشخصية اليهودي جعلتها شخصية خارجة عن المألوف، وتقديمها بهذا الشكل لا يخدم إلا فكرة الكاتب التي سخر لها كل إمكانات السرد؛ والمتعلقة بتغيير نظرة القارئ الجزائري للآخر/ اليهودي، وإن كان ذلك على حساب الموضوعية في رسم شخصية يمكن للقارئ أن يتقبلها فنيا.. تبدو شخصية حاييم ثابتة تسير على وتيرة واحدة، من البداية إلى النهاية.
قدّم السرد كثيراً من المعلومات والأحداث التاريخية التي لا نعلم مدى صدقيتها، والاعتماد عليها كمصدر للتوثيق التاريخي، باعتبار أن الرواية لا تقدم الحقائق، بل تثير الأسئلة، وهو ما أدركه المؤلف جيدا، إذ سعى إلى تحريض ذاكرة القارئ، بإثارة المواضيع التي كان الاقتراب منها يعدّ من المحرمات.
المصدر: مدونات العربي الجديد