الخميس، 2 مايو 2019

رواية "بريد الليل"... حين تصير الأشياء أعقد مما نظن


بعيدا عن الجدل الدائر حول أحقية رواية "بريد الليل" بجائزة البوكر، وبعيدا عن مصداقية هذه الجائزة، بعد تسريب نتائجها قبل موعدها، تأتي هذه القراءة النقدية التي تهتم بالنص الروائي، بعيدا عن حكم القيمة.

  
إن رواية "بريد الليل" للكاتبة اللبنانية هدى بركات، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية لسنة2019 هي رواية مونولوجية بامتياز، تعتمد تقنية الرسائل في نقل حكاياتها المتشعبة، وتعد الرسائل صيغة تخاطبية بين المرسل والمرسل إليه، وهي –كما يقول تودوروف- إحدى مقومات الرواية التي تطلعنا على كافة وجوه الشخصيات، إذن، لمن يوجه سارد "بريد الليل" رسائله ؟

     تعد رواية "بريد الليل"، بمثابة البيان الأدبي الذي يفضح قبحنا المستور بغلالة رفيعة، يمكن لهبّة الريح الأولى أن تمزقها، فحين هبّت ريح "الربيع العربي" على بعض دولنا العربية، كشفت واقعنا المرير الذي يمكن لكل واحد منا أن يحوله إلى رسالة يرسلها إلى أحد ما، لكن ولسبب ما، لا تصل رسائل شخصيات هذه الرواية إلى وجهتها، وتضيع في أماكن مجهولة، ويعثر عليها آخرون، فتحفزهم على كتابة واقعهم في رسائل خاصة بهم.

     تركز الرواية في سردها على قصص المهمشين والمنبوذين اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وتسرد ما تعرضوا له تحت وطأة الظروف القاسية؛ سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وكذا الثقافية، فتنقل أشد صنوف العذاب والاضطهاد والتنكيل الجسدي والمعنوي، مما اضطر هذه الفئة إلى مغادرة الوطن إلى الضفة الأخرى، التي لم تكن بأحسن حال في معاملتها للآخر المختلف عنها، إذ تبرز مشاكل عديدة ومتنوعة للشخصيات، تنتهي بهم إلى مصير معتّم، لا يحمل للقارئ يقينا قاطعا، بل يغلّب منطق الاحتمالات.

     استطاعت رواية"بريد الليل" أن تعري كل الشرّ الكامن في الإنسان، إذ تعرض علاقات أسرية مفككة، حيث تبيع الأم ابنتها وحفيدتها من أجل المال، والأب يسلم ابنه لارضاء الحاكم، والابن الشاذ يعاتب والده على معاملته السيئة، واللاجئ يقتل المتعاطف معه لسرقته..إلخ. وفي خضم هذه الحكايات المتواترة على ألسنة شخصيات عديدة، نلمس غياب الحب؛ العنصر الأساسي الذي يجمّل الحياة ويساعد على تجاوز الصعوبات، ولأنه زمن الحرب والتشرد والقهر، تهدمت القيم الإنسانية، وحتى الحب الذي تعرضه الرواية، هو الحب الذي تتحكم فيه الظروف الاقتصادية والسياسية، فتمنع اكتماله، أو تختزله في صوره المادية التي تفي بحاجة الجسد، دون الاهتمام بتكوين العلاقات الأسرية التي تتحطم بفعل عوامل كثيرة.

غياب معالم المكان الروائي .. وتعتيم زمن الحكي
 تعتمد الرواية على البوح والتداعي النفسي، حيث تسرد كل شخصية قصتها معتمدة على ضمير المتكلم الذي يعد"علامة على تطابق الشخصية مع السارد"، فنحن أمام اعترافات لشخصيات متعددة، تمنح الرواية صفة الرواية البوليفونية بتعبير "م.باختين"، وهي الرواية التي تشترك في أحداثها عدة شخصيات، وإن كنا هنا، لسنا بصدد شخصيات تعارض غيرها من الشخصيات وتخالفها في الرؤى، إذ لكل شخصية حكايتها الخاصة وأحداثها المستقلة. لكن هل نحن بصدد أحداث كما هو متعارف عليه في الروايات؟ الأكيد أننا بصدد سرد أفكار تتعلق بالكلام الداخلي للسارد، وتتمدد هذه الأفكار لتأخذ شكل التحليل، أو ما يسمى "بالخطاب الداخلي المسرّد"، حيث تتقلص أفعال السارد، في مقابل تدفق مشاعره وأفكاره وذكرياته التي تنقل عن طريق المونولوج الداخلي.

     تعاني الشخصيات من ظروف قاسية، تحولها إلى شخصيات مأزومة، وتجبرها على خوض مسالك لم تظن في يوم أنها قد تسلكها، تقول إحدى شخصيات الرواية، وهي امرأة أجبرتها أمها على الزواج من رجل غني، أساء معاملتها، فتطلقت منه، واضطرت لترك ابنتها عند والدتها والسفر إلى الضفة الأخرى، لتوفير المال، فاشتغلت بتنظيف الفنادق، ثم لجأت إلى العمل كمومس، تقول:"هذه ليست حياتي، لا أدري كيف انزلقت فيها، ولا من دفعني لأتسربل بمصيري هذا وأقفل كل الأبواب ورائي".
     مع أول عثرة، الكل ينزلق إلى حياة ليست حياته، هكذا هو حال أغلب الشخصيات، وما يحمد للرواية، أنها خلقت خيطا رفيعا يربط بين هذه الشخصيات التي لا يعرف أحدها الآخر، لكنها تتشابه في ظروفها القاسية، يتجلى ذلك في عثور بعض الشخصيات على رسائل البعض الآخر، واطلاعه عليها، واقراره بتشابه ظروفه مع تلك الشخصيات.

     تظهر أغلب الشخصيات بلا ملامح تميزها، ولا أسماء تعينها، لكنها تشترك في ظروف الحياة القاسية التي حولت بعض الشخصيات إلى وحوش، بسبب هول العذاب الذي تعرضت له، مثل ذاك السجين الذي جرّوه من بيته، أمام والديه بسبب وشاية كاذبة، مفادها أنه شتم الحاكم، فانهال عليه الجلاد ضربا، وأذاقه كل صنوف العذاب، وتعرض للاغتصاب، وفي الأخير أصبح مواطنا صالحا، إذ قبل أن يتجند عندهم كمخبر، وكجلاد يذيق الآخرين ما ذاقه من العذاب.

     يغيب المكان بالمفهوم الكلاسيكي، وتحضر ملامح أمكنة بلا معالم، تشير إلى أوطان هبت عليها نسائم "الربيع العربي"، المطالبة بالحرية، لكن قمعت الأصوات المعارضة للسلطة، وعذّب أصحابها في غياهب السجون التي لا وصف يجسّدها في الرواية، سوى أنات المعذبين وتوابيت الراحلين تحت وطأة التنكيل. تحضر أيضا، أمكنة من الضفة الأخرى؛ كالفنادق والبيوت والمطاعم والحانات.. لكنها بلا معالم تدل عليها أو تصفها. إننا بصدد رواية اللامكان واللازمان، وإن كان الزمن يظهر ويختفي، فحينا، هو زمن الثورات العربية ومحاولات الإطاحة بأصنام السلطة، وما نتج عنها من هجرة أو تهجير للشعوب المنكوبة بالحروب، وأحيانا أخرى نحن أمام ما يعرف بظاهرة داعش.. إلخ، كل ذلك يعدّ من المؤشرات الزمنية الدالة التي قد توحي بزمن وقوع الأحداث، لكن لا يمكننا الحديث عن زمن محدّد وواضح للرواية، لأننا بصدد قصص متنوعة، وقعت في فترات زمنية متباعدة، والخيط الجامع بينها هو، القهر والظلم والاضطهاد المسلط على الإنسان العربي، من السلطة أو من المجتمع.

     نخلص إلى أن رواية "بريد الليل"، لا تقدم للقارئ حلولا، بل تراكم لديه المزيد من الأسئلة، وتقول له على لسان "ميلان كونديرا": "إن الأشياء أكثر تعقيدا مما تظن".

..
المقال منشور في : المجلة الثقافية الجزائرية
الرابط/ 




الاثنين، 8 أبريل 2019

قراءات حرة .. غرفة تخص المرء وحده/ فرجينيا وولف

الكتاب: غرفة تخص المرء وحده
المؤلفة: فرجينيا وولف
ترجمة: عهد صبيحة
دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع

يعرفك الكتاب على الحركة النقدية النسوية في القرن العشرين. أفكار "فرجينيا وولف" وهي إحدى رائدات هذا النقد، تعالج قضايا المرأة ورؤية الآخر/الرجل للمرأة. والكتاب عبارة عن محاضرات ألقتها الكاتبة على طالبات جامعة "كامبريدج"، حيث قدمت وجهة نظرها ورؤيتها لأوضاع المرأة في القرن السادس عشر وما بعده؛ وناقشت العديد من النقاط منها:

الشروط الضرورية من أجل خلق أعمال إبداعية. تأثير الفقر على الكتابة. كما استعرضت جملة من الآراء المجحفة في حق المرأة، والتي صدرت عن كتّاب ونقّاد ورجال دين وسياسيين، كنابليون وموسوليني اللذين أكدا وبشدة على دونية النساء.
خلصت "وولف"إلى أن المرأة في عالم الخيال، في غاية الأهمية، أما في الواقع العملي فلا أهمية لها على الإطلاق. فهي تتخلل كتب الشعر من الجلدة إلى الجلدة، وهي كل شيء لكن لا وجود لها في التاريخ. كما أنها تهيمن على حيوات الملوك والغزاة في الأدب، وفي الواقع هي الخادمة لصبي فرض أهلها عليها أن تضع خاتم خطبته في إصبعها.

- أقرت "وولف" أن لا شيء معروف عن النساء قبل القرن الثامن عشر، وليس هناك أنموذج يمكن استحضاره، لذلك بحثت في أسباب غياب النساء عن الكتابة وتأليف الشعر في العصر الإلزابيثي.

-وفي محاولة للإجابة عن السؤال: ما هي الحالة الذهنية الأكثر ملاءمة لفعل الإبداع؟ عرضت "وولف" الصعوبات التي واجهت المرأة في تأليف العمل الأدبي، ووجدت أن الظروف المادية كانت العائق الأكبر، بالإضافة إلى عدم امتلاك المرأة لغرفة خاصة بها، وعدم تمتعها بالحرية الكافية التي تسمح لها بالذهاب في رحلة، أو زيارة قصيرة إلى فرنسا أو امتلاك مسكن مستقل يحميها من مطالبات واستبداد عائلتها،
والأسؤا مما سبق، كما ترى "وولف"، لا يتوقف عند لا مبالاة العالم بعملية تأليف الكتب عموما، كما عند الكتّاب أمثال كيتس وفلوبير وغيرهما من الرجال العباقرة، بل تحولت اللامبالاة إلى عداء، في حالة المرأة، فالعالم لا يقول لها كما يقول للكتاب الرجال:"اكتبي لو أردت ذلك، فالأمر لا يعنيني"، بل يقول لها مقهقها: "تكتبين؟"مالفائدة من كتابتك؟"
لذلك اعتبرت"وولف" أن توقيع الكاتبات لأعمالهن الإبداعية بأسماء مستعارة كان الملاذ لهن لإخفاء هُويتهن حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، مثل:  كارير بيل وجورج إليوت وجورج صاند(وهي الأسماء الأدبية التي كتبت تحتها شارلوت برونتي (كارير بيل) وماريان إيفانز (جورج إيليوت)، وأمانتين دوبان (جورج  صاند). وهذا الملاذ كان امتثالا للعرف الذي إن لم يكن زرعه الجنس الآخر -كما تقر وولف- فإنه قام بالتشجيع على فكرة أن شهرة النساء امر بغيض. قال بيركليس:"المجد المضيء في حياة المرأة هو الا يتحدث عنها أحد.


-ناقشت "وولف" مسألة كتابة الروايات وتأثير جنس الكاتب عليها، منطلقة من التساؤل: هل تتعارض حقيقة الجنس البيولوجي مع كمال الروائية المرأة؟ هذا الكمال الذي تعده "وولف" العمود الفقري للكاتب.
ومن خلال بعض الأمثلة السردية التي توردها "وولف" تواصل شرح كيفية تأثير الضغط على المرأة وإبقائها في البيت لترتق الجوارب، في حين هي تتوق إلى التجوال حرة في العالم، وهو ما انعكس على إخلاصها لإبداعها. لذلك خلصت إلى أن المرأة الكاتبة كانت تكتب في مواجهة نقد ما، وكانت تعبر عن ذلك بالعدائية أو الاسترضاء، أي أنها تعترف بأنها "مجرد امرأة"، أو تحتج قائلة أنها "مثل الرجل"، وبذلك فهي تواجه النقد بما يمليه مزاجها المتأرجح بين الطاعة والحياء،  أو الغضب، وفي كل حالاتها تكون الكاتبة قد فكرت في الإبداع خارج الإبداع نفسه، ولم تحقق إخلاصها لكمال إبداعها كما تعبر عنه "وولف"، وبذلك يصدر كتابها وفيه خلل في مركزه.

- أشادت"وولف" بإبداع كل من جين أوستن وإيميلي برونتي معتبرة إياهما المفخرة الأرقى؛ لأنهما كتبتا كما تكتب النساء لا كما يكتب الرجال، وكانتا الوحيدتين اللتين تجاهلتا النصائح الأزلية: اكتبي هذا وفكري بهذا. وقد تجاهلتا ذلك الصوت الذي لا يمكن أن يترك النساء في حالهن.
تختم "وولف"محاضراتها بتقديم بعض النصائح للطالبات.

 ليس هذا كل ما احتواه الكتاب، هناك الكثير من الأفكار، والتفاصيل الجميلة في عالم المرأة. وهتاك الكثير من الفائدة والمتعة، لذلك فالكتاب يستحق القراءة.


السبت، 9 مارس 2019

فراءات حرة .. بيت المحرمات / أناييس نن

الكتاب: بيت المحرمات  .. نصوص
المؤلفة: أناييس نن
الترجمة: حنان شرايخة
دار أزمنة للنشر





نصوص مشبعة بالجمال .. الجمال النابع من الخيال المجنّح، الخيال الضارب أطنابه في عصور غير موجودة، في أشياء بالإمكان تخيلها لكن لا يمكن ابدا لمسها.. إنه الوهم الجميل الذي تواعدك به أناييس نن، وتشدك من يدك لتأخذك إلى حديقة خلفية مسيجة بالخيال، مزروعة بالورود والزهور بشتى الألوان والأشكال، معطرة بروائح لا يمكنك أن تعثر على مثيل لها، إلا في خيالك..
هنا الجمال .. والخيال المبدع.
..

هل سابينا هي مجرد ذكرى؟ أم هي امرأة بلا ملامح؟
هل سابينا وجين هما أناييس نن الأخرى؟ 
..

ما أصعب البحث عن الحقيقة، في لجّة نصّ غارق في الشاعرية، 
"تقول أناييس:"إني واقعة في شرك أكاذيبي وأريد الحقيقة".
..


تنهي أناييس نصوصها الجميلة بالقول:"رقصت مع الموسقى، ومع إيقاع دوران الأرض؛ استدارت مع دورانها مثل قرص يقلب كل وجوهه نحو الضوء والعتمة على حدّ سواء، إنها ترقص نحو ضوء النهار".

  قد تكون هذه هي الحقيقة التي تبحث عنها أناييس نن. إنه الرقص المعادل الموضوعي للحرية. إنه الضوء الملجأ المنشود للروح التواقة إلى الحرية.
..
بيت المحرمات: نصوص جميلة، تطلق العنان لخيالك ليسبح في ملكوت ما وراء الأشياء، ما وراء الحقيقة إن كانت ثمة حقيقة.

إنها المتعة مع بخيال أناييس نن.

الثلاثاء، 5 مارس 2019

قراءات حرة ... هيا نشتر شاعرا / أفونسو كروش

الرواية: هيا نشتر شاعرا 
المؤلف: أفونسو كُروش
ترجمة: عبد الجليل العربي
دار:  مسكلياني

تعالج الرواية قضية النزعة المادية/النفعية، التي طغت على الإنسان، وجعلته يتعامل مع الأشياء والناس بمقياس منفعته الخاصة، بالإضافة إلى خضوع هذا الإنسان خضوعا كاملا للشركات التي احتلت حياته وخصوصياته، وبرمجت علاقاته.
حاول الكاتب انتقاد هذا الأسلوب الحياتي الذي تنعدم فيه القيم الإنسانية، معتمدا على الأسلوب السردي الساخر، تجلى ذلك، في طلب الفتاة الساردة من والدها أن يشتري لها شاعرا، والساردة في سن المراهقة، تنتمي إلى عائلة غنية تسيطر عليها القيم المادية في أبسط تفاصيل حياتها.

بدخول شخصية الشاعر إلى السرد ومشاركة العائلة حياتها، يحاول الشاعر أن يوازن بين القيم الحسية المادية التي تجسدت على طاولة طعام العائلة وفي غرف نومهم وفي أدق تفاصيلهم اليومية... وبين القيم المعنوية الجمالية، النابعة من خيال الإنسان، هذا الخيال الذي ينتج الاستعارات والكنايات والصور الشعرية من خلال إلقاء الأبيات الشعرية التي تخلق جوا مختلفا عن عالم الحسابات الذي يسيطر على أفراد الأسرة، وبذلك تبرز القيم الجمالية للفن، فتمنح قيمة ودورا للشعر والشاعر في حياتنا يقول:"قدّم صامويل جونسن في معجمه ثلاثة تعريفات لكلمة “شاعر” وهي في ترتيب تنازلي حسب الأهمية: الأول، “شخص يبتكر”؛ الثاني، “كاتب خيال”؛ وأخيراً: “كاتب قصائد

يبين الكاتب أهمية الخيال وضرورته في حياة الإنسان، قائلا:"الخيال ليس هروبًا من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما، هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسية فرضية لمجتمع أكثر انسجامًا مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية". 

من الناحية الفنية:

تسيطر الفتاة/الساردة على السرد، وتسرد بضمير المتكلم، كما أنها تسلم دفة السرد من حين لآخر إلى الشخصيات الأخرى، من خلال تقنية الحوار الذي تتبادله مع باقي شخصيات الرواية، مع الشاعر أو مع أخيها أو أمها أو والدها. 
لم يرتكز بناء الرواية على تقديم مكونات السرد بالطريقة المألوفة؛ الشخصيات والمكان والزمن، إذ جاءت الشخصيات بلا ملامح ولا أوصاف، ولا تحمل إلا أشكالا أو رموزا تدلل عليها، كما ذكر أخ البطلة عن بعض اللواتي يرافقهن أو يتحدث إليهن، فهن يحملن رموزا دون أسماء. كما أن البطلة/الساردة كذلك بدون أوصاف تقدمها للقارئ، باستثناء اختلافها عن عائلتها، والمتجسد في رغبتها إقتناء شاعر، وهو ما يبين ميلها إلى الجانب القيمي الجمالي.

تنتهي الرواية، بإفلاس الأب في صفقاته ودخوله في ضائقة مالية، تضطر العائلة للتقشف، ويكون الشاعر أول ضحايا هذا التقشف، فيستغنون عنه.

- فهل يمكننا أن نستغني عن الشعر في حياتنا؟

رغم بساطة الرواية التي تبدو واضحة الفكرة والهدف، إلا أنها مفتوحة على العديد من التأويلات التي يمكن أن تظهر من تعدد القراءات.

الرواية مسلية وأنصح بقراءتها، فهي لا تأخذ من القارئ أكثر من جلسة واحدة.




مقتطفات من الرواية:

(يتكلم مع كتبه، وكأنه يتكلم مع أصدقائه).

الجمعة، 1 مارس 2019

قراءات حرة .. رواية أيامنا الحلوة .. موحا صواك

الرواية: أيامنا الحلوة
الكاتب : موحا صواك
ترجمة: فريد الزاهي
سلسلة الجوائز /الهيئة المصرية العامة للكتاب


تحصلت هذه الرواية على جائزة الأطلس الكبير في الأدب الفرانكفوني، لكني لم أستمتع كثيرا بقراءتها، رغم ذلك أكملتها، للتعرف على هذا الكاتب المجهول بالنسبة لي. 
تدور الرواية في مدن مغربية بين الدار البيضاء والرباط ومراكش. ومنذ البداية ينقلنا السارد بين قصتين بسلاسة؛ فصة "فضيلة"عاشقة عبد الحليم، والتي تتتبع أخباره وأفلامه وأغانيه. وقصة "منى" المتذوقة للفنون خاصة الرقص والموسيقى والتي ترفض عروضا للبقاء في أوريا، وتفضل العودة إلى المغرب وطنها لتمارس مهنتها بحرية، يصادف أن تكون "منى" في قطار الدار البيضاء الذي يتواجد فيه السارد، فتتجاذب معه أطراف الحديث. أما السارد فهو صحفي بسيط، يقول:"أنا الصحفي البسيط المجهول في أحد الصحف اليومية بالدار البيضاء" ويطمح السارد للزواج "بسلوى" التي تنتمي إلى طبقة ثرية.

تعالج الرواية عدة مواضيع منها؛ أهمية الفنون من غناء ورقص وموسيقى في حياة الإنسان، يتجسد ذلك من خلال شخصيتين أساسيتين في الرواية هما، فضيلة التي تلاحق الغناء من خلال عشقها لعبد الحليم. ومنى التي تبرع في الرقص والموسيقى.    
كما تعالج الرواية، قضية قمع المرأة العربية وتعذيبها وحرمانها من أبسط حقوقها، تجلى ذلك في قمع شخصية فضيلة التي تحرم من متابعة أخبار فنانها المفضل وتمنع من الذهاب إلى السنما، فتتحايل من أجل ذلك، وحين تذهب خلسة، تعاقب من طرف أهلها وتعنف. ويتم تزويجها برجل يهينها ويضربها، كما تهينها عائلته، فتهرب من بيته الذي لم يختلف عن بيت أهلها كثيرا، فكلاهما يمثل سجنا بالنسبة إليها، وهي تنشد الحرية والانطلاق. 

تناولت الرواية أيضا، قضية قمع الكتاب والصحفيين وانعدام الحرية في مجال الكتابة، تجلى ذلك في حذف بعض ما يكتبه السارد الصحفي، في مقالاته إرضاء لجهات في السلطة أو لأصحاب النفوذ. كما تطرق السارد أيضا، لقضية الارهاب والتفجيرات التي تحدث في الأماكن العامة، مثلما حدث في المقهى، ويبدي انتقاده للجماعات الاسلامية المتشددة التي ترفض الفنون والموسيقى والرقص، وتحول دون إقامة المهرجانات. 

وعلى العموم، فإن الرواية تبرز الوضع المزري الذي يعيشه الإنسان العربي ابتداء من انعدام الحرية والعيش الكريم، ووصولا إلى تجريم الفنون، والتضييق على المرأة التي تعيش وضعا قاسيا، وتحاول تحدي الصعوبات والعوائق لتتمكن من مواصلة العيش بكرامة.   

"أيامنا الحلوة" رواية تقدس الفنون، من موسيقى ورقص وتمثيل، وعنوانها يدل على ذلك، فهو يشير لأحد أفلام الفنان عبد الحلم حافظ، الشخصية الغائبة، الحاضرة بقوة في هذه الرواية.



قراءات حرة .. رواية آموك سعار الحب للكاتب ستيفان زفايغ



الرواية: آموك سعار الحب للكاتب: ستيفان زفايغ
المترجم: ناظم بن إبراهيم
دار مسكلياني


يعرّف المترجم، الآموك: بأنه سلوك إجرامي لاحظه الدارسون في مناطق مختلفة من العالم. وتم تحديد تسميته الإثنوغرافية في ماليزيا. وهو سعار مفاجئ يركض على أساسه المريض بلا توقف قاتلا كل من يعترضه. ولم يتوصل إلى تحديد سبب واضح له، ولا إلى معالجته إلا عن طريق قتل المريض في أسرع وقت ممكن. 
ويذكر ايضا، أن العنوان الحرفي للرواية هو: الراكض في حالة آموك. وهي حالة سعار عنيفة سيتأسس عليها مجمل السرد في هذه الرواية.
يستخدم "زفايغ" حالة المريض بالآموك، ليسقطها على بطله في حالة شغفه العميق والمفاجئ بامرأة عابرة. لذلك يذكر المترجم، وبناء على تيمة الرواية، أنه يفضل أن يكون العنوان "سعار الحب" لأن أساس الآموك المقصود هو الشغف المفاجئ بالمرأة، للعلم أن الترجمة الفرنسية كما ذكر المترجم، كانت"مجنون ماليزيا".



تقديم الرواية:

زمن الرواية:
يقول السارد:"ها أنا الآن أحاول استحضارها وترتيبها لإعطاء صورة واضحة عن العالم الصاخب الذي كان يتبدى بين عيني"9. تظهر الجملة الزمنية "ها أنا الآن"، وعي الذات الساردة بمرور الزمن، ومحاولة تسجيل الزمن الحاضر الذي تنكتب فيه الرواية التي تعتبر استرجاعا واستحضارا لحادثة سبق حصولها منذ سنة 1912 وها هو الآن يستحضر ويسرد أحداثها. فحاضر الرواية أو زمن خطابها، هو لحظة استرجاع السارد/المؤلف للحادثة التي وقعت في 1912، وهو زمن القصة أو الأحداث. 

يبدأ السارد/المؤلف، بذكر حادثة غريبة مرت به في سنة 1912، أثناء تفريغ حمولة باخرة عابرة للمحيطات في ميناء نابولي، لأنه كان من ركاب السفينة "أوسيانيا، ولم يكن السارد قريبا من الحادثة، ولا شاهدا عليها لأنها وقعت ليلا حين كان عمال السفينة منشغلين بإنزال حمولتها، لكنه يذكر أنه يمتلك بعض الافتراضات التي لم يبح بها في وقتها، وتنطوي على التفسير الحقيقي لهذه الحادثة. يقول إن:"مرور كل هذه السنوات يسمح لي الآن بالاستفادة من تلك المحادثة السرية التي سبقت هذه الواقعة الغريبة مباشرة"ص7. 

وكانت السفينة التي يتحدث عنها السارد، قادمة من كالكوتا بالهند، وقد ذكر المترجم في الهامش أن"زفايغ" كان قد زار الهند في 1909 وظل بها أكثر من 6 أشهر حيث زار كالكوتا وسيلان ومادراس والاندوشين). وهو ما قد يدعم القول بأن "زفايغ" يستعين بقصصه الخاصة، أو بتلك التي تمر بالقرب منه في الواقع، ليكتب رواياته التي يضفي عليها من خياله المبدع الكثير.

ذكر السارد/المؤلف أن سفره كان في مواسم الأمطار، حيث تكون أغلب الغرف محجوزة، لذلك وجد صعوبة في تأمين مكان لائق في هذه السفينة، فاكتفى بمقصورة صغيرة غير مريحة في الطابق السفلي وسط الباخرة، يصفها بالقول:"كانت الباخرة حقا محملة فوق طاقتها، وكانت المقصورة رديئة. قمرة ضيقة لصيقة بالمحرك لا يضيئها غير خيط ضوء خافت يدخل من كوة دائرية في سقفه، يمكنك أن تستنشق في هوائها الخانق والندي رائحة الوقود والعفن، ولا يمكنك أن تهرب لحظة واحدة من أزيز المروحة الكهربائية العلوية وهي لا تفتأ تدور حول رأسك مثل خفافيش مجنونة. في الأسفل كان المحرك يلهث ويئن مثل عامل فحم لا يتوقف عن الصعود والنزول من تفس الدرج لاهثا، وفي الأعلى، يمكنك أن تسمع باستمرار وقع أحذية المسافرين أثناء تنزههم على السطح" ص8. ويضيف:"المقصورة أشبه بالقبر"8 .
 بعتمد السارد/المؤلف، على الوصف الخاطف الذي يميز الرواية المعاصرة، حيث لا يشكل الوصف وقفا لزمن السرد، بل يدفع الأحداث إلى الأمام، ويشكل مقطعا فنيا جماليا يتزين به السرد. يواصل السارد/المؤلف وصف السفينة وممراتها والأشخاص على سطحها، من خلال مقاطع وصفية على شكل "صور سردية".

تجدر الإشارة إلى أن "زفايغ" يتبع في هذه الرواية التقنية ذاتها التي اتبعها في رواية "رسالة من مجهولة"، أي تقنية الاعتراف أو التداعي الحر، حيث نسمع صوت بطلة تلك الرواية التي ظلت بلا اسم، حين اعتزمت الاعتراف بقصتها، من خلال كتابة رسالة إلى حبيبها الكاتب الذي لم يكن يعلم بوجودها ولا بحبها له، حيث تخبره في الرسالة عن رغبتها في الحكي، وهي الرغبة ذاتها التي نجدها مجسدة في رواية "آموك"، إذ نجد الرجل الغريب الذي يختبئ في ركن من أركان السفينة متواريا عن كل الأنظار، وحين يلتقي به السارد/المؤلف صدفة ويتقرب منه يطلب منه أن يسمعه، لأنه يريد أن يحكي، أن يعترف، يقول:"أريد أن أطلب منك شيئا..أقصد أريد أن أروي لك شيئا.. أعرف أعرف كم هو سخيف من ناحيتي أن أتوجه بهذه الطريقة إلى أول شخص ألتقي به.. لكن أنا، أنا في حالة نفسية فظيعة، لقد وصلت إلى نقطة يتحتم علي فيها أن أتحدث إلى أحدثهم.. أو سأضيع"ص19. ويضيف:"أن أروي لك قصتي الخاصة"ص22. 
وعليه يمكن القول: إن "زفايغ" لا يكف في رواياته عن لعب دور المحلل النفسي الذي يغوص عميقا في دواخل شخصياته، ليخرح كوامنها بطريقة تشكل له سردا مشوقا، ينبني على تتبع أدق تفاصيل المشاعر والأحاسيس، وما يختلج في النفس البشرية المحبطة والسعيدة والخائفة والعاشقة والهاربة.. وغيره من النماذج التي قدمها بصورة المحلل النفسي.

تدور أحداث رواية "آموك"، حول حادثة يسترجعها السارد/المؤلف، وهي حادثة وقعت حين كان متجولا ليلا على ظهر السفينة، فالتقى بأحد المسافرين المتوارين في ركن قصي، هربا من عيون الركاب، تقرب منه فوجد لديه استعدادا ليحكي قصته.
هذا المسافر هو بطل الرواية، وهو طبيب من أوربا مبتعث للعمل مدة عشر سنوات في قرى ومناطق نائية بآسيا، بسبب سرقته لصندوق مال المستشفى، إذ كان يعاني من إفلاس مالي، ومن أجل امرأة أقدم على فعلته. يقضي الطبيب أيامه الرتيبة في هذه المناطق التي تخلو من امرأة بيضاء، كما يقر بذلك، إلى أن جاءته امرأة جميلة من الطبقة الثرية، تطلب منه مساعدتها مقابل مبلغ مالي كبير، بشرط رحيله من البلد بعد إجراء عملية إجهاض لحملها الناتج عن علاقة خارج نطاق المؤسسة الزوجية. ولأن شخصية المرأة، كما بدت للطبيب، شخصية معتدة بنفسها ومتعالية، وهو ما لم يرق له، فقرر إذلالها مادامت هي التي تحتاجه، طالبا منها أن تتوسله لكي يساعدها، ثم اقترح
عليها شيئا آخر موحيا لها برغبته فيها، مما أشعرها بالغضب واحتقاره والسخرية منه، وهو ما أشعل نار الحقد عليه، وأحس بكراهيتها له، فخرجت من عيادته هاربة منه.
أحس الطبيب بفداحة طلبه، فلحق بها ليعتذر عن خطئه، لكنه لم يتمكن من ذلك لاعتراض خادمها له. لكنه استطاع أن يسأل ويتعرف عليها؛ فهي زوجة رجل ثري سيعود من سفره بعد أيام قليلة. 

يصاب الطبيب بما يشبه السعار، لأنه رغب في هذه المرأة الجميلة التي رفضته، مما أشعره بالإهانة وأراد أن يصحح خطأه بأن يساعدها دون أن يطلب منها شيئا، لكنها كانت قد حسمت أمرها ولم ترد مقابلته مرة آخرى. وسلمت السيدة نفسها إلى إحداهن من اللواتي يشتغلن بطريقة بدائية، معرضة نفسها للخطر، إذ تعرضت إلى نزيف حاد، مما اضطر خادمها للاستعانة بالطبيب ذاته لينقذها، لكن الوقت كان قد فات.

يقرر الطبيب مساعدة هذه السيدة، من خلال الاحتفاظ بسرها، وعدم ذكر سبب موتها، وهدد طبيب العائلة الذي أراد أن يعاين سبب الموت، هدده بالقتل إذا لم يزور التقرير، ويذكر أن الموت كان بسبب سكتة قلبية مفاجئة ، نفذ طبيب العائلة ما طلبه منه. ثم اختفى البطل/الطبيب الذي عاد إلى أوربا على ظهر السفينة "أوسيانيا" باسم مستعار، وشاهد زوج الضحية على السفينة نفسها مصطحبا معه تابوتا.  

بعد انتهاء البطل/الطبيب من سرد حكايته على السارد/المؤلف، يذكر هذا الأخير، أنه بعد لقاء هذا الرجل، وأثناء توقف السفينة بإيطاليا، قرأ أن الصحف،كتبت عن حادثة غريبة، يقال أن أحدهم رمى تابوتا كان على نفس السفينة ، في قعر البحر، فسقط معه زوج السيدة المتوفية. يقول:"حدث لاحقا أن أتيحت لي فرصة قراءة قصة رومانسية، نشرتها الجرائد الإيطالية، عن حادث مزعوم في ميناء نابولي، كانوا على حد قولهم، بصدد إنزال نعش واحدة من أهم نساء المستعمرة الهولندية من الباخرة إلى زورق، في الليل(...) وبينما كان زوج الضحية حاضرا، انزلق النعش وابتعد مسافة حبل كامل، وسقط فجأة جسم ثقيل من أعلى الباخرة إلى البحر، ساحبا معه في سقوطه الزوج والنعش، ومن يحملونه. أكدت إحدى الجرائد أن مجنونا صعد إلى الزورق منذ بداية إنزاله، بينما بالغت اخرى ، وقالت إن الحبل انفلت لأنه لم يكن يحمل وزنا ثقيلا(...) تم التمكن من إخراج حاملي النعش وزوج الضحية من الماء سالمين معافين، وفي المقابل، نزل النعش بكل ثقله إلى القاع، ولم يتمكن من إنقاذه إحد. بالتزامن مع ذلك ظهرت في الجرائد، قصة قصيرة أخرى، تعلن عن العثور على جثة رجل في الأربعين من العمر، يبدو أن القراء لم يربطوا بينها وبين قصة النعش الرومانسية. أما أنا، فبمجرد أن انتهيت من قراءة هذه الأسطر سريعا، حتى لمحت فجأة، وراء جريدتي، الوجه الشاحب والنظارتين اللامعتين لشبحه"ص89.

هكذا ينهي المؤلف روايته، فاتحا الباب أمام القارئ ليختار النهاية التي يراها مناسبة، وأقرب إلى الحقيقة، رغم أن ذلك يبدو صعبا، لكن هدف المؤلف هو إشراك قارئه في التأويل وإنتاج المعنى؛ وهي غاية يسعى إليها كل كاتب، لأنها تكمل جماليات النص.
          

الخميس، 28 فبراير 2019

قراءات حرة.. رواية الخوف ..لـــ ستيفان زفايغ



قراءة في رواية "الخوف" . ستيفان زفايغ"
ترجمة: أبو بكر  العبادي


يواصل "ستيفان زفايغ" مهمته التي يبرع فيها جيدا، وتمثِّل عالمه المفضل، وهي الغوص في النفس البشرية، ونقل ما يعتريها من مشاعر وتغيرات، قد لا يفهمها صاحبها.. فهو يدرك إحساس المذنب، فيجسده في شخصية "إيرين" العائدة للتو من بيت عشيقها، فتشعر ، وكأن كل العيون تراقبها، وتعرف من أين جاءت. بقول السارد/المؤلف:"ذلك الوهم العبثي بأن كل نظرة غريبة في الشارع يمكن أن تعرف من أين جاءت، لو انحطت عليها وترمي هلعها بإبتسامة وقحة".

يقدم السارد معلومات عن شخصباته بالتدريج؛ يعرفنا على اسم البطلة، ثم يخبرنا عن تواجدها في بيت عازف البيانو، وعن خيانتها، وتراجعها هذه المرة، وإحساسها بالضيق من فعلتها، وحرصها على المغادرة بسرعة لاستعادة عالمها البرجوازي، وأثناء خروجها تعترضها امرأة تدعي أنها صديقة إدوارد عازف البيانو، وأنها خطفته منها، وأنها ستفسد حياتها، وهو ما أرعب البطلة، وجعلها تعيش تحت رحمة هذه السيدة وإبتزازها.

تحكي الرواية قصة عن "إيرين" المرأة الثلاثينية الجميلة التي تنتمي إلى الطبقة البرجوازية، تعيش حياة سعيدة مع طفليها، وزوجها المحامي المشهور منذ ثماني سنوات،  وفجأة تشعر بالفتور في حياتها، فتجد نفسها في علاقة غير شرعية مع عازف البيانو، دون أن تحس بالانجذاب نحوه. يقول السارد محاولا تفسير هذا الشعور :"ثمة مناخات فاترة، تجعل  سعادات معتدلة أكثر إغاظة من المصائب" . 

 إذن:
ماذا أراد المؤلف أن يقول من خلال حالة "إيرين" التي تقدم على هذه المغامرة المجنونة، دون أن يكون لديها أية رغبة في ذلك، رغم ذلك تخون زوجها وحياتها الهادئة، يقول:"أي جنون مرعب ألقى بها في مغامرة لم يعد قلبها يفهمها، وإن أدركتها حواسها قليلا؟ لم تعد تعلم عن ذلك شيئا، كل ما حدث بدا لها غريبا عنها، بل كانت ترى نفسها غريبة
تعيش البطلة"إيرين" الخوف من أن يكتشف زوجها خطيئتها، فتنقلب حياتها رأسا على عقب، خاصة بعد أن وصلت تلك المرأة، صديقة عازف البيانو إلى بيتها وبدأت مرحلة الابتزاز والملاحقة، 
يحاول زوجها التخفيف من حالة الرعب التي تعيشها، فيقدم لها بعض النصائح بطريقة غير مباشرة، ترمي في معظمها إلى أن الاعتراف يريح الإنسان ويخفف من توتره، لكنها تخبره بأن الإنسان أحيانا يخشى من لحظات الخجل التي تعتريه، حين يكتشف أمره، أكثر من الخوف في حد ذاته. تسوء حالة البطلة فتحاول الانتحار للتتخلص من آلام الخوف، لكن تحدث المفاجأة التي لم تكن متوقعة.  

تستحق رواية"الخوف" القراءة، وهي رواية قصيرة لا تتعدى صفحاتها(83)ص.


قراءات حرة .. رواية: "رسالة من مجهولة" ستيفان زفايج

قراءة في رواية:"رسالة من مجهولة" لـــ : ستيفان زفايج 
ترجمة : أبو بكر العبادي


المؤلف في سطور :

ستيفان زفايج أو زفايغ، كاتب نمساوي ذو مكانة أدبية مرموقة في كتابة الروايات والمسرحيات والأبحاث الأدبية، ولد سنة1881، كتب زفايغ سيرته الذاتية في:"عالم الأمس" وأبدع فيها، من أشهر رواياته: "لاعب الشطرنج" " 24 ساعة في حياة امرأة"، "أموك، سعار الحب"، "الشفقة الخطيرة"... تمتاز كتابات زفايغ بالغوص في النفس البشرية، واخراج ما بداخلها من مشاعر كامنة، واشتهر بالروايات القصيرة، أو القصص الطويلة. وقد أنجز العديد من الدراسات والأبحاث التي تتناول حياة المشاهير من الأدباء، مثل ديستوفسكي، بلزاك، تولستوي...
عايش زفايغ، ويلات الحرب العالمية الثانية، وانتهى به المطاف، بانهاء حياته يائسا من أوضاع العالم، وتدهور السلم العالمي، توفي سنة 1942.
ترجمت بعض روايات زفايغ إلى اللغة العربية، وقد قرأت بعضها مثل: "لاعب الشطرنج" و"الخوف"، و"آموك سعار الحب". ورواية  "رسالة من امرأة مجهولة".


كان أول لقاء لي مع "زفايغ"، من خلال روايته:"رسالة من مجهولة"، ويمكنني القول إنه كاتب بارع، يعرف كيف يحفر في النفس البشرية، ويستخرج أدق إحساستها الأليمة والسعيدة، تجسد ذلك من خلال البطلة مجهولة الاسم التي عشقت كاتبا كبيرا من الطبقة الأرستقراطية، وقد انتقل للسكن في نفس العمارة التي تسكن فيها البطلة مع والدتها، والبطلة، فتاة في الثالثة عشر من عمرها، حرمت من والدها، وقد وقعت في حب هذا الكاتب الناضج.
تبدأ مرحلة حب المراهِقة من خلال تتبعها لأدق تفاصيل هذا الرجل، ولكل الداخلين إلى بيته والخارجين منه، بالإضافة إلى مراقبة خادمه، لمعرفة معلومات عن الكاتب، وعن سهراته والنساء اللواتي يرافقهن، والألم الذي يصيبها عند رؤية ذلك.

تسرد الفتاة العاشقة حكايتها، فنعيش معها حياة هذا الكاتب بأدق التفاصيل. وقد ظلت الفتاة تراقب الكاتب إلى أن فاجأتها والدتها باعتزامها الانتقال إلى مدينة أخرى مع رجل عرض عليها الزواج، حزنت العاشقة، لكنها رضخت لأمر والدتها، مع احتفاظها بحبها للكاتب، إلى أن صارت شابة في الثامنة عشر، وعادت إلى مدينة حبها الأول، وإلى العمارة التي كانت تسكن فيها، فوجدت أن حبيبها الكاتب، مازال محافظا على بيته الذي أحبته البطلة وتمت دخوله.
اشتغلت المراهقة في متجر لبيع الملابس، يقع بالقرب من بيت عشيقها الكاتب، وظلت تراقبه طيلة أيام لتلفت انتباهه، وجاءتها الفرصة، حين عرض عليها الكاتب عشاء في شقته، كعادته في اصطحاب امرأة يقضي معها الليل، وكانت تتأمل هذه العاشقة، أن الكاتب قد يتعرف عليها، لكن خاب ظنها. تقول: "لم أكن بالنسبة إليك سوى مغامرة وامرأة نكرة".
أما بالنسبة للكاتب، فالشابة الجميلة، ليست سوى لحظة متعة عابرة، تنتهي بانتهاء الليل. وهبت العاشقة نفسها لحبيبها بكل حب، وظلت تواعده لمدة ثلاثة أيام، كان نتيجتها حملها بطفل منه، وكانت لحظة وفاة طفلها، هي لحظة استعادة كل ذكرياتها مع هذا الكاتب، لتستعيد كل تفاصيلها الصغيرة عبر تقنية الاسترجاع، ومن خلال رسالة تكتبها له، لتخبره عن كل آلامها التي تحملتها، وعذابها من هذا الحب الذي انتهى بها إلى الموت، تقول: سمح لي يا حبيبي أن أروي لك كل شيء منذ البداية فلا تضجر أتوسل إليك وأنت تسمعني أتحدث عن نفسي لمدة ربع ساعة، أنا التي لم تضجر طيلة حياتها يوما من حكيك".
..

-      تحكى الرواية بضمير المتكلم من خلال الساردة/البطلة التي تحكي قصتها بالغوص في دواخل نفسها، من خلال تقنية تيار الوعي الذي أسهم في استخرج أدق المشاعر. وكما ذكر  مراجِع الرواية: "العادل خضر" في الخاتمة أن "ستيفان زفايغ" صديق لفرايد، لذلك يبدو أنه متأثر به في تحليل النفس البشرية، وذكر أن البطلة تنطبق عليها نظرية "فرويد" الخاصة بعقدة إلكترا المستوحاة من أسطورة الكترا اليونانية والتي تتضمن حسب «سيغموند فرويد» التعلق اللاواعي للفتاة بوالدها، وهو ما يقابلها عند الذكر عقدة أوديب.
..


مقتطفات من الرواية:


"أحبك كما أنت متأجج وسريع النسيان، سخي وخائن، أحبك هكذا، لا شيء إلا هكذا كما كنت دائما، وكما أنت الآن" . 

"لا أحد يكذب في عتمة الموت"

-      " حين لا نتعرف على أنفسنا، لا يتعرف علينا أحد"

-       "الناس الذين يعيشون في ضيق نهمون دائما لمعرفةكل جديد يعبر أبوابهم"

قراءات حرة ..



قراءة جمالية في المجموعة الشعرية:"وكان البيت أخي السابع" 
للشاعر السوري المغيرة الهويدي

بقلم: د. فريدة إبراهيم  

صدرت للشاعر السوري"المغيرة الهويدي" مجموعته الشعرية الثانية "وكان البيت أخي السابع" عن دار ممدوح عدوان 2019، بعد مجموعته الأولى(الحب لا يغادر البلاد).تتكون مجموعته الثانية من مئة وستّ وعشرين قصيدة، تتمحور في مجملها حول ثيمة: الحرب والحب والغربة والوطن والحرية.. إذ كتبت الذات الشاعرة أهوال الحرب، وكشفت وجهها القبيح وما تخلفه من أوجاع في النفس البشرية، ورغم ما تعانيه هذه الذات، إلا أنها توميئ وإن بصورة خافتة، للأمل المنتظر الذي قد نتلمسه في عشبة تنبعث من بين الركام (أريد أن أكتب العشب، العشب الذي سينبت على حديد المدافع). تحاول هذه القراءة النقدية، الوقوف على مواطن الجمال التي انبنت عليها التجربة الشعرية، من خلال مقاربة دلالاتها، والتعرف على بعض تقنياتها الفنية.

جمالية العتبات النصية

عتبة الغلاف

تشكل العتبات النصية، منطقة تعاقد استراتيجية للتأثير على الجمهور، حسب"ج.جينيت". فالعتبات علامات دالة تتعاضد لتمنح النص دفقة شاعرية، تجذب القارئ وتسوق للكتاب. وتعد عتبة الغلاف أول عتبة تقابل القارئ، باعتبارها خطابا يحمل(رؤية لغوية). يغلب على غلاف المجموعة الشعرية، الألوان الداكنة، كاللون الرمادي الذي يتخلله اللون الأسود واللون البني، وفي ذلك دلالات توحي لمسحة الحزن التي قد تميز القصائد. يتوسط الغلاف لوحة مرسومة لبيت كبير، أو بناية تتراص فيها الشقق التي تبدو مهجورة. خلف البناية تبرز خيمتان أو أكثر بلونهما الأبيض المبهج. يعلو هذه اللوحة وجه طفل بلا ملامح، تحتضن يده البيت الذي تخرج من نوافذه طائرة ورقية، ترافق الطيور المحلقة في الفضاء. في أعلى صفحة الغلاف كتب عنوان المجموعة الشعرية بلون أبيض مبهج، قد يوحي لارتباط حميمي للذات الشاعرة بهذا البيت، وباللون الأبيض أيضا، رسمت طائرتان ورقيتان تتموضعان على جانبي العنوان بشكل متقن، محمّل بدلالات متعددة. في وسط الغلاف يرتسم اسم المؤلف بلون أسود، يثير التساؤل عن سبب اختيار هذا اللون الدال على الحزن، تحت اسم المؤلف مباشرة، وضع تجنيس الكتاب، مشيرا إلى جنس الشعر. وفي أسفل الغلاف، وضع رمز دار النشر. واحتوى ظهر صفحة الغلاف مقتطفات شعرية من القصائد، تشي بالطابع الغالب عليها.     
     
مما سبق يمكننا ملاحظة، العلاقة الوثيقة بين اللوحة المرسومة على وجه الغلاف، وعنوان الكتاب"وكان البيت أخي السابع"، بالإضاغة إلى الدقة في اختيار الألوان وتناسقها، مما يسهم في إضفاء المزيد من الجمال على المجموعة الشعرية، ويبرز براعة المصمم، وهو ما يحمد لدار النشر التي أولت اهتماما بالغا بتصميم الغلاف في توافقه مع مضمون العنوان، وهو الشيء الذي نؤكد عليه، لأهمية الدور الذي يلعبه الغلاف، باعتباره نقطة التواصل الأولى بين القارئ والنص.

عتبة العنوان

يرى "جيرار فينييه"، أن العنوان بنية رحمية تولد معظم دلالات النص وأبعاده الفكرية والإيديولوجية.. ويلعب العنوان دورا هاما، باعتباره علامة تسويقية، جاذبة للقارئ الذي يسهم في إنتاج المعنى من خلال تفكيك شفرات العنوان. يدل عنوان المجموعة الشعرية "وكان البيت أخي السابع" على المكان، ويتميز بالطول بالنظر إلى العناوين التي عادة ما تتصف بالاقتصاد والتكثيف، وينتمي إلى نوع العناوين الموضوعاتية التي تشي بما قد تحتويه القصائد. وإذا حاولنا استنطاقه باعتباره تركيبا مكونا من علامات لغوية دالة، تستوقفنا كلمة البيت المكتنزة بدلالات اجتماعية وفلسفية وتاريخية... فالبيت باعتباره فضاء جغرافيا مغلقا، يرمز إلى الاستقرار والأمان والعائلة.. وتزداد أهميته في زمن الحرب، إذ يمثل الملجأ والحماية، أو أن يكون معرضا للهدم، فيتشرد أهله.

     يتشكل العنوان من جملة فعلية مستوفية لأركانها وذات معنى، تتكون من الفعل الماضي الناقص الذي يحمل في طياته مؤشرا زمنيا، يوحي بانقضاء الحدث وزواله، والمعنى المقصود منه، تفسّره الجملة الاسمية (أخي السابع) التي تخبرنا عن هذا البيت المعرّف(بأل التعريف) والتعريف هنا، يقلّص احتمالات التأويل، لنكون أمام بيت يخص الشاعر، لكن كيف يمكن أن يُؤنسَن البيت؟ وما دلالة رقم سبعة؟ هل يستمد حمولته من الدلالات الأسطورية؟ لا يمكننا الجزم بالإجابة على هذه الأسئلة إلا بالرجوع إلى القصائد، لكن كلّما ازداد التساؤل حول العنوان، كلما انفتح باب التأويل، لإثراء عملية التواصل التي هي غاية المؤلف.

يختصر العنوان "وكان البيت أخي السابع"، المعاناة التي تعالجها نصوص المجموعة الشعرية، ويمكننا أن نجملها في قول الذات الشاعرة:(البلاد عطب في ذاكرة الرجال)، فالبيت بحمولاته المتعددة قد يعني أيضا، الوطن الذي نال حظه من الدمار ولم يعد صالحا للبقاء، كما يبدو البيت في معناه القريب، في قول الشاعر:
(قذيفة واحدة
كانت كفيلة بهدم البيت وتهشيم ذكريات العائلة
وحده ثوب أمي على حبل الغسيل
ظل يلوح بكميّه مودعا).
ثم تسترسل الذات الشاعرة في استعادة ذكرياتها بكل تفاصيلها المحزنة، فنتعرف على:ممرات هذا البيت ونوافذه، خزائنه وتلفازه القديم، كومة الصور وألعاب الأطفال...يقول (غ.باشلار): إن الذكريات المتعلقة بالبيوت القديمة تظل معنا، وتعاش من جديد كأحلام يقظة، أما أشياء البيت التي كانت تشغله، فتشكل صفة الألفة مثل الإنسان، فهي بمثابة العضو الحقيقي النابض في حياتنا النفسية الخفية، ودونها تفقد حياتنا الألفة. يقول الشاعر:
(أريد أن أعود إلى هناك
أريد أن أشاهد بيتنا المهدم
أريد أن أتحسس حجارته
ألمس خشب أبوابه المتكسرة).

بناء على ما سبق، يبدو جليا الاختيار الدقيق للعنوان الرئيسي، فهو يشكل نواة القصائد، خاصة بعد تعرفنا على موضوعها الأساسي والذي يعكس في مجمله الوجه القبيح للحرب، وما تخلفه من دمار للبيوت والأوطان وتهجير السكان. وبمراجعة فهرس عناوين القصائد، نلاحظ أنها عناوين محرضة لمخيلة القارئ ومثيرة للتساؤل، مثل(إعلان الخطيئة، كوابيس اليقظة، أجساد ناقصة..)،وتتميز بلغتها الشاعرية المكثفة التي تستمدها من اختيار الكلمات المتقابلة التي تخلق المفارقة والتضاد، مثل(قبلة مضاءة، بلد مطفأة..)، تضفي هذه اللغة على النصوص أناقة جمالية مميزة.

الحب في مواجهة الحرب

في الحرب يفقد الإنسان الأهل والبيت والوطن، والكثير من الأشياء التي تتحول إلى مجرد ذكرى، تحاول الذات الشاعرة إعادة صياغتها، لكن كيف يمكن التغلب على الحرب لمواصلة الحياة؟

منذ الوهلة الأولى نلاحظ أن الكلمة الافتتاحية، لأول قصيدة(ضحكة امرأة..نباح كلب) التي تتصدر المجموعة الشعرية، هي كلمة(الحب) المؤكدة بالضمير المنفصل (هو)، فالحب الذي يمثل طوق النجاة بالنسبة للشاعر في زمن الحرب، هو الحب ذاته المرفوض في وطن لا يعرف الحب، ويطارد المحبين، يقول الشاعر:
(هو الحب قاتلنا الطليق! 
ينصب لنا الفخاخ أبوابا مغلقة
وحيدان في تجهم البلاد
البلاد التي تكره نفسها 
لكننا ودون أن نثير ارتياب البلاد
مضينا جهة الهروب 
فكان الحب!
وكان خلف الباب من كل قبيلة كاهن يترصدنا).

تغلّب الذات الشاعرة زمنها الشعري، المتمثل في المضارع الممتد، الناقل للأحداث التي لم تنته بعد، فالفخاخ ما تزال تنصب، والأوصياء ما زالوا يترصدون، والبلاد ما تزال تكره نفسها.. وحتى حين تعبّر الذات الشاعرة عن الحدث بالزمن المنقضي، فإنها تهرب جهة الحب الذي يظل في موضع الارتياب والتأهب. مما لا شك فيه، أن الانطلاق من ثيمة الحب لم يأت صدفة، إذ يبدو جليا أن الشاعر يعلي من هذه القيمة الإنسانية التي كانت وما زالت هي طوق النجاة، حين تقسو الحياة على الإنسان، أو حين يعم ضجيج الرصاص، فيبحث الإنسان عن الحب ليحتمي به، خاصة إذا كان هذا الإنسان يمتلك إحساسا مرهفا كالشاعر، وبذلك يكون الشاعر قد انتصر للحب، وآمن بانتصاره على الحرب، ويمكننا تلمّس ذلك في الكثير من اللوحات الشعرية المنتشرة، نختار منها هذه اللوحة الشعرية النابضة بالحيوية، حيث يعود الشاعر في كل مرة إلى قلب المحبوبة، بعد مشاركته في المعارك، ليغتسل من آثار ما علق به، فتكون الحبيبة درعه الحصين الذي يحميه من الانهيار.
(كل يوم تستبيح الحرب شبرا من خارطة القلب
تدنسه بالخوف والرايات وفوهات البنادق
 كل يوم أعود إليك مثقلا بالموت
مهزوما أو منتصرا 
كل يوم تغسلين آثار الدماء على ثيابي
تكنسين شظايا الزجاج في عروقي
تشعلين في مسامي حرائق لذيذة
بضحكة تطغى على صوت انفجار لغم).
تبدو لغة القصيدة مشبعة بالمجازات التي تضفي على اللغة الشعرية، سمتها المميزة أي الانزياح، أو ما يسميه "يان موخاروفسكي" التحريف الذي يحطم معايير اللغة المألوفة، معتمدا التكثيف، مانحا للغة قيمتها الإيحائية ، ما يؤدي إلى الحفر عميقا في مخيلة القارئ، لإشراكه في إكمال النص. ويجدر بنا هنا أن نتساءل، عن ماهية هذه الحرب التي تأتي منها الذات الشاعرة مهزومة حينا، وأحيانا منتصرة؟ إنها وكما تقول في قصيدة (حرب ليست كالحرب)،حرب الإخوة الأعداء المتخفين بأقنعة تنتمي إلى طين هذه الأرض:
(أريد حربا تشبه الحرب
وعدوا هو العدو، بلا قناع من طين هذي الأرض).
     
و(عندما لم تتسع هذي البلاد لنا، حملنا حقائينا ومضينا)، بحثا عن حرية تشمل الجميع، تحضر الحرية  كثيمة أساسية في المجموعة الشعرية، حيث تستحضر الذات الشاعرة، زمنا آخر محملا بملامح شخصية روائية متمردة للكاتب"نيكوس كزانتزاكيس"، شخصية زوربا" القائل:"لا آمل في شيء،لا أخشى شيئًا ،ولا أتوقّع شيئًا ،فأنا حر". تظل الحرية مثار جدل عنيف، وهناك من يحاربها بحجة الوصاية على الآخر. ينحاز الشاعر للحرية، فيقدم لائحته الحياتية رافضا  كل وصاية، عبر ما يسمى بتفاعل النصوص وحوارها، أي علاقة نص حاضر بنصوص سابقة أو معاصرة له، إذ نجد في (زوربا السوري) محاكاة "لزوربا اليوناني" الذي اتخذ من الرقص وسيلة للتعبير عن رفضه لكل منغصات الحياة. تقدم الذات الشاعرة رؤيتها لانعتاقها بلغة واضحة وممتعة:
(قل هي الحرية في ألا أختار طريقا يفضي إلا إلى الرقص،
وأعد الكرّةَ
-بلادك تخلت عنك
لم تترك لك جبهة لتقف فيها
فقف بالرقص).
    
استفادت لغة المجموعة الشعرية، من تركيب العبارة الشفوية ذات الإيقاع الجذاب، المشبع بحمولة اللغة المحلية التي تعكس ثقافة المنطقة، فتأتي اللغة متأنقة، متوهجة كامرأة تبتهج تحت المطر الذي (يهطل ليصل ساق امرأة ترفع ثوبها عن الأرض/تشكله بطرف سحابة صيف عابرة). تحضر المرأة، باعتبارها جزءا مهما في حياة الرجل "الرقّاوي" الذي يتغنى بها في تراتيل ربابته و(يرفع كأسه لنخب الـ"موليا"وهي تعبر المسافة بين بابها/ والرصيف المقابل)، يحضر أيضا، الشاي، مطر الصيف،شجرة الزيزقون..، وتفاصيل أخرى جميلة، تجعلك تتعرف على ما يحبه أهل "الرقّة" التي لا تعرفها، وهي من سوريا التي تظن أنك كمواطن عربي تعرفها.
     
أخيرا، وبما أن الحدود بين الأجناس الأدبية، قد أصبحت (أقل استقرارا من الحدود الإدارية للصين) كما يقر(جاكبسون)، يمكننا الإشارة إلى بعض التقنيات السردية التي تخللت القصائد، وأضفت عليها جمالية مميزة، مع الحفاظ على معمار القصيدة الإيقاعي والتصويري، حيث تجلّت براعة الشاعر في نسج القصائد على شكل حكاية مكتملة العناصر؛ من سارد ومسرود له وحدث وزمان ومكان، تجسّد ذلك في(كوابيس اليقظة)، إذ يحكي السارد حكايته بضمير المتكلم، متوجها إلى مسرود له يحاوره في زمان ومكان محددين. وتحضر أقوال الشخصيات، لنكون أمام حكاية متعددة الأصوات بالاعتماد على صيغة (قالوا)، كما في قصيدة(السعلوّة). واستخدمت تقنية الحوار بشكل فعال، كما برز المونولوج في(عباءة تحت المطر).
تسهم هذه التمازجات الشعرية السردية، في خلق مجال أرحب لأفق القصيدة الدلالي والجمالي.
    
ختاما، لا بد من الإستعانة بالجزء الأول من مقولة "كروتشيه"(على الناقد أن يقف أمام مبدعات الفن موقف المتعبّد..)، لقد كنت مجرد قارئة، وقفت طويلا موقف المتعبّد عند كل ما أبدعه الشاعر، وتحسست بعض مواطن الجمال، ولاحظت التطوّر الذي شهدته قصائده، مقارنة بمجموعته الشعرية الأولى. وأقول أنه لا أحد كالشاعر يمكنه أن يجمّل حياتنا، ويجعل الشعر أجمل، حين يعبّر بصدق عمّا يجيش في النفس الإنسانية ، فيلامس حزنها وفرحها وآمالها. وإذا كان الشاعر قد انتصر لقيمة الحب بانطلاقه منه، ثم عرّج على القبح، ليسمعنا أقوال الحرب، وأقوال المنفيين قسرا، فإنه ختم تجربته الشعرية، بقيمة الحرية التي لا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها، وفي ذلك إشارات موحية للاختيار الصعب الذي قد يتبناه الإنسان، في زمن الصراعات.


ملاحظة:
هذه القراءة منشورة في :المجلة الثقافية 
الرابط: 
http://thakafamag.com/?p=21286