الجمعة، 1 مارس 2019

قراءات حرة .. رواية أيامنا الحلوة .. موحا صواك

الرواية: أيامنا الحلوة
الكاتب : موحا صواك
ترجمة: فريد الزاهي
سلسلة الجوائز /الهيئة المصرية العامة للكتاب


تحصلت هذه الرواية على جائزة الأطلس الكبير في الأدب الفرانكفوني، لكني لم أستمتع كثيرا بقراءتها، رغم ذلك أكملتها، للتعرف على هذا الكاتب المجهول بالنسبة لي. 
تدور الرواية في مدن مغربية بين الدار البيضاء والرباط ومراكش. ومنذ البداية ينقلنا السارد بين قصتين بسلاسة؛ فصة "فضيلة"عاشقة عبد الحليم، والتي تتتبع أخباره وأفلامه وأغانيه. وقصة "منى" المتذوقة للفنون خاصة الرقص والموسيقى والتي ترفض عروضا للبقاء في أوريا، وتفضل العودة إلى المغرب وطنها لتمارس مهنتها بحرية، يصادف أن تكون "منى" في قطار الدار البيضاء الذي يتواجد فيه السارد، فتتجاذب معه أطراف الحديث. أما السارد فهو صحفي بسيط، يقول:"أنا الصحفي البسيط المجهول في أحد الصحف اليومية بالدار البيضاء" ويطمح السارد للزواج "بسلوى" التي تنتمي إلى طبقة ثرية.

تعالج الرواية عدة مواضيع منها؛ أهمية الفنون من غناء ورقص وموسيقى في حياة الإنسان، يتجسد ذلك من خلال شخصيتين أساسيتين في الرواية هما، فضيلة التي تلاحق الغناء من خلال عشقها لعبد الحليم. ومنى التي تبرع في الرقص والموسيقى.    
كما تعالج الرواية، قضية قمع المرأة العربية وتعذيبها وحرمانها من أبسط حقوقها، تجلى ذلك في قمع شخصية فضيلة التي تحرم من متابعة أخبار فنانها المفضل وتمنع من الذهاب إلى السنما، فتتحايل من أجل ذلك، وحين تذهب خلسة، تعاقب من طرف أهلها وتعنف. ويتم تزويجها برجل يهينها ويضربها، كما تهينها عائلته، فتهرب من بيته الذي لم يختلف عن بيت أهلها كثيرا، فكلاهما يمثل سجنا بالنسبة إليها، وهي تنشد الحرية والانطلاق. 

تناولت الرواية أيضا، قضية قمع الكتاب والصحفيين وانعدام الحرية في مجال الكتابة، تجلى ذلك في حذف بعض ما يكتبه السارد الصحفي، في مقالاته إرضاء لجهات في السلطة أو لأصحاب النفوذ. كما تطرق السارد أيضا، لقضية الارهاب والتفجيرات التي تحدث في الأماكن العامة، مثلما حدث في المقهى، ويبدي انتقاده للجماعات الاسلامية المتشددة التي ترفض الفنون والموسيقى والرقص، وتحول دون إقامة المهرجانات. 

وعلى العموم، فإن الرواية تبرز الوضع المزري الذي يعيشه الإنسان العربي ابتداء من انعدام الحرية والعيش الكريم، ووصولا إلى تجريم الفنون، والتضييق على المرأة التي تعيش وضعا قاسيا، وتحاول تحدي الصعوبات والعوائق لتتمكن من مواصلة العيش بكرامة.   

"أيامنا الحلوة" رواية تقدس الفنون، من موسيقى ورقص وتمثيل، وعنوانها يدل على ذلك، فهو يشير لأحد أفلام الفنان عبد الحلم حافظ، الشخصية الغائبة، الحاضرة بقوة في هذه الرواية.



قراءات حرة .. رواية آموك سعار الحب للكاتب ستيفان زفايغ



الرواية: آموك سعار الحب للكاتب: ستيفان زفايغ
المترجم: ناظم بن إبراهيم
دار مسكلياني


يعرّف المترجم، الآموك: بأنه سلوك إجرامي لاحظه الدارسون في مناطق مختلفة من العالم. وتم تحديد تسميته الإثنوغرافية في ماليزيا. وهو سعار مفاجئ يركض على أساسه المريض بلا توقف قاتلا كل من يعترضه. ولم يتوصل إلى تحديد سبب واضح له، ولا إلى معالجته إلا عن طريق قتل المريض في أسرع وقت ممكن. 
ويذكر ايضا، أن العنوان الحرفي للرواية هو: الراكض في حالة آموك. وهي حالة سعار عنيفة سيتأسس عليها مجمل السرد في هذه الرواية.
يستخدم "زفايغ" حالة المريض بالآموك، ليسقطها على بطله في حالة شغفه العميق والمفاجئ بامرأة عابرة. لذلك يذكر المترجم، وبناء على تيمة الرواية، أنه يفضل أن يكون العنوان "سعار الحب" لأن أساس الآموك المقصود هو الشغف المفاجئ بالمرأة، للعلم أن الترجمة الفرنسية كما ذكر المترجم، كانت"مجنون ماليزيا".



تقديم الرواية:

زمن الرواية:
يقول السارد:"ها أنا الآن أحاول استحضارها وترتيبها لإعطاء صورة واضحة عن العالم الصاخب الذي كان يتبدى بين عيني"9. تظهر الجملة الزمنية "ها أنا الآن"، وعي الذات الساردة بمرور الزمن، ومحاولة تسجيل الزمن الحاضر الذي تنكتب فيه الرواية التي تعتبر استرجاعا واستحضارا لحادثة سبق حصولها منذ سنة 1912 وها هو الآن يستحضر ويسرد أحداثها. فحاضر الرواية أو زمن خطابها، هو لحظة استرجاع السارد/المؤلف للحادثة التي وقعت في 1912، وهو زمن القصة أو الأحداث. 

يبدأ السارد/المؤلف، بذكر حادثة غريبة مرت به في سنة 1912، أثناء تفريغ حمولة باخرة عابرة للمحيطات في ميناء نابولي، لأنه كان من ركاب السفينة "أوسيانيا، ولم يكن السارد قريبا من الحادثة، ولا شاهدا عليها لأنها وقعت ليلا حين كان عمال السفينة منشغلين بإنزال حمولتها، لكنه يذكر أنه يمتلك بعض الافتراضات التي لم يبح بها في وقتها، وتنطوي على التفسير الحقيقي لهذه الحادثة. يقول إن:"مرور كل هذه السنوات يسمح لي الآن بالاستفادة من تلك المحادثة السرية التي سبقت هذه الواقعة الغريبة مباشرة"ص7. 

وكانت السفينة التي يتحدث عنها السارد، قادمة من كالكوتا بالهند، وقد ذكر المترجم في الهامش أن"زفايغ" كان قد زار الهند في 1909 وظل بها أكثر من 6 أشهر حيث زار كالكوتا وسيلان ومادراس والاندوشين). وهو ما قد يدعم القول بأن "زفايغ" يستعين بقصصه الخاصة، أو بتلك التي تمر بالقرب منه في الواقع، ليكتب رواياته التي يضفي عليها من خياله المبدع الكثير.

ذكر السارد/المؤلف أن سفره كان في مواسم الأمطار، حيث تكون أغلب الغرف محجوزة، لذلك وجد صعوبة في تأمين مكان لائق في هذه السفينة، فاكتفى بمقصورة صغيرة غير مريحة في الطابق السفلي وسط الباخرة، يصفها بالقول:"كانت الباخرة حقا محملة فوق طاقتها، وكانت المقصورة رديئة. قمرة ضيقة لصيقة بالمحرك لا يضيئها غير خيط ضوء خافت يدخل من كوة دائرية في سقفه، يمكنك أن تستنشق في هوائها الخانق والندي رائحة الوقود والعفن، ولا يمكنك أن تهرب لحظة واحدة من أزيز المروحة الكهربائية العلوية وهي لا تفتأ تدور حول رأسك مثل خفافيش مجنونة. في الأسفل كان المحرك يلهث ويئن مثل عامل فحم لا يتوقف عن الصعود والنزول من تفس الدرج لاهثا، وفي الأعلى، يمكنك أن تسمع باستمرار وقع أحذية المسافرين أثناء تنزههم على السطح" ص8. ويضيف:"المقصورة أشبه بالقبر"8 .
 بعتمد السارد/المؤلف، على الوصف الخاطف الذي يميز الرواية المعاصرة، حيث لا يشكل الوصف وقفا لزمن السرد، بل يدفع الأحداث إلى الأمام، ويشكل مقطعا فنيا جماليا يتزين به السرد. يواصل السارد/المؤلف وصف السفينة وممراتها والأشخاص على سطحها، من خلال مقاطع وصفية على شكل "صور سردية".

تجدر الإشارة إلى أن "زفايغ" يتبع في هذه الرواية التقنية ذاتها التي اتبعها في رواية "رسالة من مجهولة"، أي تقنية الاعتراف أو التداعي الحر، حيث نسمع صوت بطلة تلك الرواية التي ظلت بلا اسم، حين اعتزمت الاعتراف بقصتها، من خلال كتابة رسالة إلى حبيبها الكاتب الذي لم يكن يعلم بوجودها ولا بحبها له، حيث تخبره في الرسالة عن رغبتها في الحكي، وهي الرغبة ذاتها التي نجدها مجسدة في رواية "آموك"، إذ نجد الرجل الغريب الذي يختبئ في ركن من أركان السفينة متواريا عن كل الأنظار، وحين يلتقي به السارد/المؤلف صدفة ويتقرب منه يطلب منه أن يسمعه، لأنه يريد أن يحكي، أن يعترف، يقول:"أريد أن أطلب منك شيئا..أقصد أريد أن أروي لك شيئا.. أعرف أعرف كم هو سخيف من ناحيتي أن أتوجه بهذه الطريقة إلى أول شخص ألتقي به.. لكن أنا، أنا في حالة نفسية فظيعة، لقد وصلت إلى نقطة يتحتم علي فيها أن أتحدث إلى أحدثهم.. أو سأضيع"ص19. ويضيف:"أن أروي لك قصتي الخاصة"ص22. 
وعليه يمكن القول: إن "زفايغ" لا يكف في رواياته عن لعب دور المحلل النفسي الذي يغوص عميقا في دواخل شخصياته، ليخرح كوامنها بطريقة تشكل له سردا مشوقا، ينبني على تتبع أدق تفاصيل المشاعر والأحاسيس، وما يختلج في النفس البشرية المحبطة والسعيدة والخائفة والعاشقة والهاربة.. وغيره من النماذج التي قدمها بصورة المحلل النفسي.

تدور أحداث رواية "آموك"، حول حادثة يسترجعها السارد/المؤلف، وهي حادثة وقعت حين كان متجولا ليلا على ظهر السفينة، فالتقى بأحد المسافرين المتوارين في ركن قصي، هربا من عيون الركاب، تقرب منه فوجد لديه استعدادا ليحكي قصته.
هذا المسافر هو بطل الرواية، وهو طبيب من أوربا مبتعث للعمل مدة عشر سنوات في قرى ومناطق نائية بآسيا، بسبب سرقته لصندوق مال المستشفى، إذ كان يعاني من إفلاس مالي، ومن أجل امرأة أقدم على فعلته. يقضي الطبيب أيامه الرتيبة في هذه المناطق التي تخلو من امرأة بيضاء، كما يقر بذلك، إلى أن جاءته امرأة جميلة من الطبقة الثرية، تطلب منه مساعدتها مقابل مبلغ مالي كبير، بشرط رحيله من البلد بعد إجراء عملية إجهاض لحملها الناتج عن علاقة خارج نطاق المؤسسة الزوجية. ولأن شخصية المرأة، كما بدت للطبيب، شخصية معتدة بنفسها ومتعالية، وهو ما لم يرق له، فقرر إذلالها مادامت هي التي تحتاجه، طالبا منها أن تتوسله لكي يساعدها، ثم اقترح
عليها شيئا آخر موحيا لها برغبته فيها، مما أشعرها بالغضب واحتقاره والسخرية منه، وهو ما أشعل نار الحقد عليه، وأحس بكراهيتها له، فخرجت من عيادته هاربة منه.
أحس الطبيب بفداحة طلبه، فلحق بها ليعتذر عن خطئه، لكنه لم يتمكن من ذلك لاعتراض خادمها له. لكنه استطاع أن يسأل ويتعرف عليها؛ فهي زوجة رجل ثري سيعود من سفره بعد أيام قليلة. 

يصاب الطبيب بما يشبه السعار، لأنه رغب في هذه المرأة الجميلة التي رفضته، مما أشعره بالإهانة وأراد أن يصحح خطأه بأن يساعدها دون أن يطلب منها شيئا، لكنها كانت قد حسمت أمرها ولم ترد مقابلته مرة آخرى. وسلمت السيدة نفسها إلى إحداهن من اللواتي يشتغلن بطريقة بدائية، معرضة نفسها للخطر، إذ تعرضت إلى نزيف حاد، مما اضطر خادمها للاستعانة بالطبيب ذاته لينقذها، لكن الوقت كان قد فات.

يقرر الطبيب مساعدة هذه السيدة، من خلال الاحتفاظ بسرها، وعدم ذكر سبب موتها، وهدد طبيب العائلة الذي أراد أن يعاين سبب الموت، هدده بالقتل إذا لم يزور التقرير، ويذكر أن الموت كان بسبب سكتة قلبية مفاجئة ، نفذ طبيب العائلة ما طلبه منه. ثم اختفى البطل/الطبيب الذي عاد إلى أوربا على ظهر السفينة "أوسيانيا" باسم مستعار، وشاهد زوج الضحية على السفينة نفسها مصطحبا معه تابوتا.  

بعد انتهاء البطل/الطبيب من سرد حكايته على السارد/المؤلف، يذكر هذا الأخير، أنه بعد لقاء هذا الرجل، وأثناء توقف السفينة بإيطاليا، قرأ أن الصحف،كتبت عن حادثة غريبة، يقال أن أحدهم رمى تابوتا كان على نفس السفينة ، في قعر البحر، فسقط معه زوج السيدة المتوفية. يقول:"حدث لاحقا أن أتيحت لي فرصة قراءة قصة رومانسية، نشرتها الجرائد الإيطالية، عن حادث مزعوم في ميناء نابولي، كانوا على حد قولهم، بصدد إنزال نعش واحدة من أهم نساء المستعمرة الهولندية من الباخرة إلى زورق، في الليل(...) وبينما كان زوج الضحية حاضرا، انزلق النعش وابتعد مسافة حبل كامل، وسقط فجأة جسم ثقيل من أعلى الباخرة إلى البحر، ساحبا معه في سقوطه الزوج والنعش، ومن يحملونه. أكدت إحدى الجرائد أن مجنونا صعد إلى الزورق منذ بداية إنزاله، بينما بالغت اخرى ، وقالت إن الحبل انفلت لأنه لم يكن يحمل وزنا ثقيلا(...) تم التمكن من إخراج حاملي النعش وزوج الضحية من الماء سالمين معافين، وفي المقابل، نزل النعش بكل ثقله إلى القاع، ولم يتمكن من إنقاذه إحد. بالتزامن مع ذلك ظهرت في الجرائد، قصة قصيرة أخرى، تعلن عن العثور على جثة رجل في الأربعين من العمر، يبدو أن القراء لم يربطوا بينها وبين قصة النعش الرومانسية. أما أنا، فبمجرد أن انتهيت من قراءة هذه الأسطر سريعا، حتى لمحت فجأة، وراء جريدتي، الوجه الشاحب والنظارتين اللامعتين لشبحه"ص89.

هكذا ينهي المؤلف روايته، فاتحا الباب أمام القارئ ليختار النهاية التي يراها مناسبة، وأقرب إلى الحقيقة، رغم أن ذلك يبدو صعبا، لكن هدف المؤلف هو إشراك قارئه في التأويل وإنتاج المعنى؛ وهي غاية يسعى إليها كل كاتب، لأنها تكمل جماليات النص.
          

الخميس، 28 فبراير 2019

قراءات حرة.. رواية الخوف ..لـــ ستيفان زفايغ



قراءة في رواية "الخوف" . ستيفان زفايغ"
ترجمة: أبو بكر  العبادي


يواصل "ستيفان زفايغ" مهمته التي يبرع فيها جيدا، وتمثِّل عالمه المفضل، وهي الغوص في النفس البشرية، ونقل ما يعتريها من مشاعر وتغيرات، قد لا يفهمها صاحبها.. فهو يدرك إحساس المذنب، فيجسده في شخصية "إيرين" العائدة للتو من بيت عشيقها، فتشعر ، وكأن كل العيون تراقبها، وتعرف من أين جاءت. بقول السارد/المؤلف:"ذلك الوهم العبثي بأن كل نظرة غريبة في الشارع يمكن أن تعرف من أين جاءت، لو انحطت عليها وترمي هلعها بإبتسامة وقحة".

يقدم السارد معلومات عن شخصباته بالتدريج؛ يعرفنا على اسم البطلة، ثم يخبرنا عن تواجدها في بيت عازف البيانو، وعن خيانتها، وتراجعها هذه المرة، وإحساسها بالضيق من فعلتها، وحرصها على المغادرة بسرعة لاستعادة عالمها البرجوازي، وأثناء خروجها تعترضها امرأة تدعي أنها صديقة إدوارد عازف البيانو، وأنها خطفته منها، وأنها ستفسد حياتها، وهو ما أرعب البطلة، وجعلها تعيش تحت رحمة هذه السيدة وإبتزازها.

تحكي الرواية قصة عن "إيرين" المرأة الثلاثينية الجميلة التي تنتمي إلى الطبقة البرجوازية، تعيش حياة سعيدة مع طفليها، وزوجها المحامي المشهور منذ ثماني سنوات،  وفجأة تشعر بالفتور في حياتها، فتجد نفسها في علاقة غير شرعية مع عازف البيانو، دون أن تحس بالانجذاب نحوه. يقول السارد محاولا تفسير هذا الشعور :"ثمة مناخات فاترة، تجعل  سعادات معتدلة أكثر إغاظة من المصائب" . 

 إذن:
ماذا أراد المؤلف أن يقول من خلال حالة "إيرين" التي تقدم على هذه المغامرة المجنونة، دون أن يكون لديها أية رغبة في ذلك، رغم ذلك تخون زوجها وحياتها الهادئة، يقول:"أي جنون مرعب ألقى بها في مغامرة لم يعد قلبها يفهمها، وإن أدركتها حواسها قليلا؟ لم تعد تعلم عن ذلك شيئا، كل ما حدث بدا لها غريبا عنها، بل كانت ترى نفسها غريبة
تعيش البطلة"إيرين" الخوف من أن يكتشف زوجها خطيئتها، فتنقلب حياتها رأسا على عقب، خاصة بعد أن وصلت تلك المرأة، صديقة عازف البيانو إلى بيتها وبدأت مرحلة الابتزاز والملاحقة، 
يحاول زوجها التخفيف من حالة الرعب التي تعيشها، فيقدم لها بعض النصائح بطريقة غير مباشرة، ترمي في معظمها إلى أن الاعتراف يريح الإنسان ويخفف من توتره، لكنها تخبره بأن الإنسان أحيانا يخشى من لحظات الخجل التي تعتريه، حين يكتشف أمره، أكثر من الخوف في حد ذاته. تسوء حالة البطلة فتحاول الانتحار للتتخلص من آلام الخوف، لكن تحدث المفاجأة التي لم تكن متوقعة.  

تستحق رواية"الخوف" القراءة، وهي رواية قصيرة لا تتعدى صفحاتها(83)ص.


قراءات حرة .. رواية: "رسالة من مجهولة" ستيفان زفايج

قراءة في رواية:"رسالة من مجهولة" لـــ : ستيفان زفايج 
ترجمة : أبو بكر العبادي


المؤلف في سطور :

ستيفان زفايج أو زفايغ، كاتب نمساوي ذو مكانة أدبية مرموقة في كتابة الروايات والمسرحيات والأبحاث الأدبية، ولد سنة1881، كتب زفايغ سيرته الذاتية في:"عالم الأمس" وأبدع فيها، من أشهر رواياته: "لاعب الشطرنج" " 24 ساعة في حياة امرأة"، "أموك، سعار الحب"، "الشفقة الخطيرة"... تمتاز كتابات زفايغ بالغوص في النفس البشرية، واخراج ما بداخلها من مشاعر كامنة، واشتهر بالروايات القصيرة، أو القصص الطويلة. وقد أنجز العديد من الدراسات والأبحاث التي تتناول حياة المشاهير من الأدباء، مثل ديستوفسكي، بلزاك، تولستوي...
عايش زفايغ، ويلات الحرب العالمية الثانية، وانتهى به المطاف، بانهاء حياته يائسا من أوضاع العالم، وتدهور السلم العالمي، توفي سنة 1942.
ترجمت بعض روايات زفايغ إلى اللغة العربية، وقد قرأت بعضها مثل: "لاعب الشطرنج" و"الخوف"، و"آموك سعار الحب". ورواية  "رسالة من امرأة مجهولة".


كان أول لقاء لي مع "زفايغ"، من خلال روايته:"رسالة من مجهولة"، ويمكنني القول إنه كاتب بارع، يعرف كيف يحفر في النفس البشرية، ويستخرج أدق إحساستها الأليمة والسعيدة، تجسد ذلك من خلال البطلة مجهولة الاسم التي عشقت كاتبا كبيرا من الطبقة الأرستقراطية، وقد انتقل للسكن في نفس العمارة التي تسكن فيها البطلة مع والدتها، والبطلة، فتاة في الثالثة عشر من عمرها، حرمت من والدها، وقد وقعت في حب هذا الكاتب الناضج.
تبدأ مرحلة حب المراهِقة من خلال تتبعها لأدق تفاصيل هذا الرجل، ولكل الداخلين إلى بيته والخارجين منه، بالإضافة إلى مراقبة خادمه، لمعرفة معلومات عن الكاتب، وعن سهراته والنساء اللواتي يرافقهن، والألم الذي يصيبها عند رؤية ذلك.

تسرد الفتاة العاشقة حكايتها، فنعيش معها حياة هذا الكاتب بأدق التفاصيل. وقد ظلت الفتاة تراقب الكاتب إلى أن فاجأتها والدتها باعتزامها الانتقال إلى مدينة أخرى مع رجل عرض عليها الزواج، حزنت العاشقة، لكنها رضخت لأمر والدتها، مع احتفاظها بحبها للكاتب، إلى أن صارت شابة في الثامنة عشر، وعادت إلى مدينة حبها الأول، وإلى العمارة التي كانت تسكن فيها، فوجدت أن حبيبها الكاتب، مازال محافظا على بيته الذي أحبته البطلة وتمت دخوله.
اشتغلت المراهقة في متجر لبيع الملابس، يقع بالقرب من بيت عشيقها الكاتب، وظلت تراقبه طيلة أيام لتلفت انتباهه، وجاءتها الفرصة، حين عرض عليها الكاتب عشاء في شقته، كعادته في اصطحاب امرأة يقضي معها الليل، وكانت تتأمل هذه العاشقة، أن الكاتب قد يتعرف عليها، لكن خاب ظنها. تقول: "لم أكن بالنسبة إليك سوى مغامرة وامرأة نكرة".
أما بالنسبة للكاتب، فالشابة الجميلة، ليست سوى لحظة متعة عابرة، تنتهي بانتهاء الليل. وهبت العاشقة نفسها لحبيبها بكل حب، وظلت تواعده لمدة ثلاثة أيام، كان نتيجتها حملها بطفل منه، وكانت لحظة وفاة طفلها، هي لحظة استعادة كل ذكرياتها مع هذا الكاتب، لتستعيد كل تفاصيلها الصغيرة عبر تقنية الاسترجاع، ومن خلال رسالة تكتبها له، لتخبره عن كل آلامها التي تحملتها، وعذابها من هذا الحب الذي انتهى بها إلى الموت، تقول: سمح لي يا حبيبي أن أروي لك كل شيء منذ البداية فلا تضجر أتوسل إليك وأنت تسمعني أتحدث عن نفسي لمدة ربع ساعة، أنا التي لم تضجر طيلة حياتها يوما من حكيك".
..

-      تحكى الرواية بضمير المتكلم من خلال الساردة/البطلة التي تحكي قصتها بالغوص في دواخل نفسها، من خلال تقنية تيار الوعي الذي أسهم في استخرج أدق المشاعر. وكما ذكر  مراجِع الرواية: "العادل خضر" في الخاتمة أن "ستيفان زفايغ" صديق لفرايد، لذلك يبدو أنه متأثر به في تحليل النفس البشرية، وذكر أن البطلة تنطبق عليها نظرية "فرويد" الخاصة بعقدة إلكترا المستوحاة من أسطورة الكترا اليونانية والتي تتضمن حسب «سيغموند فرويد» التعلق اللاواعي للفتاة بوالدها، وهو ما يقابلها عند الذكر عقدة أوديب.
..


مقتطفات من الرواية:


"أحبك كما أنت متأجج وسريع النسيان، سخي وخائن، أحبك هكذا، لا شيء إلا هكذا كما كنت دائما، وكما أنت الآن" . 

"لا أحد يكذب في عتمة الموت"

-      " حين لا نتعرف على أنفسنا، لا يتعرف علينا أحد"

-       "الناس الذين يعيشون في ضيق نهمون دائما لمعرفةكل جديد يعبر أبوابهم"

قراءات حرة ..



قراءة جمالية في المجموعة الشعرية:"وكان البيت أخي السابع" 
للشاعر السوري المغيرة الهويدي

بقلم: د. فريدة إبراهيم  

صدرت للشاعر السوري"المغيرة الهويدي" مجموعته الشعرية الثانية "وكان البيت أخي السابع" عن دار ممدوح عدوان 2019، بعد مجموعته الأولى(الحب لا يغادر البلاد).تتكون مجموعته الثانية من مئة وستّ وعشرين قصيدة، تتمحور في مجملها حول ثيمة: الحرب والحب والغربة والوطن والحرية.. إذ كتبت الذات الشاعرة أهوال الحرب، وكشفت وجهها القبيح وما تخلفه من أوجاع في النفس البشرية، ورغم ما تعانيه هذه الذات، إلا أنها توميئ وإن بصورة خافتة، للأمل المنتظر الذي قد نتلمسه في عشبة تنبعث من بين الركام (أريد أن أكتب العشب، العشب الذي سينبت على حديد المدافع). تحاول هذه القراءة النقدية، الوقوف على مواطن الجمال التي انبنت عليها التجربة الشعرية، من خلال مقاربة دلالاتها، والتعرف على بعض تقنياتها الفنية.

جمالية العتبات النصية

عتبة الغلاف

تشكل العتبات النصية، منطقة تعاقد استراتيجية للتأثير على الجمهور، حسب"ج.جينيت". فالعتبات علامات دالة تتعاضد لتمنح النص دفقة شاعرية، تجذب القارئ وتسوق للكتاب. وتعد عتبة الغلاف أول عتبة تقابل القارئ، باعتبارها خطابا يحمل(رؤية لغوية). يغلب على غلاف المجموعة الشعرية، الألوان الداكنة، كاللون الرمادي الذي يتخلله اللون الأسود واللون البني، وفي ذلك دلالات توحي لمسحة الحزن التي قد تميز القصائد. يتوسط الغلاف لوحة مرسومة لبيت كبير، أو بناية تتراص فيها الشقق التي تبدو مهجورة. خلف البناية تبرز خيمتان أو أكثر بلونهما الأبيض المبهج. يعلو هذه اللوحة وجه طفل بلا ملامح، تحتضن يده البيت الذي تخرج من نوافذه طائرة ورقية، ترافق الطيور المحلقة في الفضاء. في أعلى صفحة الغلاف كتب عنوان المجموعة الشعرية بلون أبيض مبهج، قد يوحي لارتباط حميمي للذات الشاعرة بهذا البيت، وباللون الأبيض أيضا، رسمت طائرتان ورقيتان تتموضعان على جانبي العنوان بشكل متقن، محمّل بدلالات متعددة. في وسط الغلاف يرتسم اسم المؤلف بلون أسود، يثير التساؤل عن سبب اختيار هذا اللون الدال على الحزن، تحت اسم المؤلف مباشرة، وضع تجنيس الكتاب، مشيرا إلى جنس الشعر. وفي أسفل الغلاف، وضع رمز دار النشر. واحتوى ظهر صفحة الغلاف مقتطفات شعرية من القصائد، تشي بالطابع الغالب عليها.     
     
مما سبق يمكننا ملاحظة، العلاقة الوثيقة بين اللوحة المرسومة على وجه الغلاف، وعنوان الكتاب"وكان البيت أخي السابع"، بالإضاغة إلى الدقة في اختيار الألوان وتناسقها، مما يسهم في إضفاء المزيد من الجمال على المجموعة الشعرية، ويبرز براعة المصمم، وهو ما يحمد لدار النشر التي أولت اهتماما بالغا بتصميم الغلاف في توافقه مع مضمون العنوان، وهو الشيء الذي نؤكد عليه، لأهمية الدور الذي يلعبه الغلاف، باعتباره نقطة التواصل الأولى بين القارئ والنص.

عتبة العنوان

يرى "جيرار فينييه"، أن العنوان بنية رحمية تولد معظم دلالات النص وأبعاده الفكرية والإيديولوجية.. ويلعب العنوان دورا هاما، باعتباره علامة تسويقية، جاذبة للقارئ الذي يسهم في إنتاج المعنى من خلال تفكيك شفرات العنوان. يدل عنوان المجموعة الشعرية "وكان البيت أخي السابع" على المكان، ويتميز بالطول بالنظر إلى العناوين التي عادة ما تتصف بالاقتصاد والتكثيف، وينتمي إلى نوع العناوين الموضوعاتية التي تشي بما قد تحتويه القصائد. وإذا حاولنا استنطاقه باعتباره تركيبا مكونا من علامات لغوية دالة، تستوقفنا كلمة البيت المكتنزة بدلالات اجتماعية وفلسفية وتاريخية... فالبيت باعتباره فضاء جغرافيا مغلقا، يرمز إلى الاستقرار والأمان والعائلة.. وتزداد أهميته في زمن الحرب، إذ يمثل الملجأ والحماية، أو أن يكون معرضا للهدم، فيتشرد أهله.

     يتشكل العنوان من جملة فعلية مستوفية لأركانها وذات معنى، تتكون من الفعل الماضي الناقص الذي يحمل في طياته مؤشرا زمنيا، يوحي بانقضاء الحدث وزواله، والمعنى المقصود منه، تفسّره الجملة الاسمية (أخي السابع) التي تخبرنا عن هذا البيت المعرّف(بأل التعريف) والتعريف هنا، يقلّص احتمالات التأويل، لنكون أمام بيت يخص الشاعر، لكن كيف يمكن أن يُؤنسَن البيت؟ وما دلالة رقم سبعة؟ هل يستمد حمولته من الدلالات الأسطورية؟ لا يمكننا الجزم بالإجابة على هذه الأسئلة إلا بالرجوع إلى القصائد، لكن كلّما ازداد التساؤل حول العنوان، كلما انفتح باب التأويل، لإثراء عملية التواصل التي هي غاية المؤلف.

يختصر العنوان "وكان البيت أخي السابع"، المعاناة التي تعالجها نصوص المجموعة الشعرية، ويمكننا أن نجملها في قول الذات الشاعرة:(البلاد عطب في ذاكرة الرجال)، فالبيت بحمولاته المتعددة قد يعني أيضا، الوطن الذي نال حظه من الدمار ولم يعد صالحا للبقاء، كما يبدو البيت في معناه القريب، في قول الشاعر:
(قذيفة واحدة
كانت كفيلة بهدم البيت وتهشيم ذكريات العائلة
وحده ثوب أمي على حبل الغسيل
ظل يلوح بكميّه مودعا).
ثم تسترسل الذات الشاعرة في استعادة ذكرياتها بكل تفاصيلها المحزنة، فنتعرف على:ممرات هذا البيت ونوافذه، خزائنه وتلفازه القديم، كومة الصور وألعاب الأطفال...يقول (غ.باشلار): إن الذكريات المتعلقة بالبيوت القديمة تظل معنا، وتعاش من جديد كأحلام يقظة، أما أشياء البيت التي كانت تشغله، فتشكل صفة الألفة مثل الإنسان، فهي بمثابة العضو الحقيقي النابض في حياتنا النفسية الخفية، ودونها تفقد حياتنا الألفة. يقول الشاعر:
(أريد أن أعود إلى هناك
أريد أن أشاهد بيتنا المهدم
أريد أن أتحسس حجارته
ألمس خشب أبوابه المتكسرة).

بناء على ما سبق، يبدو جليا الاختيار الدقيق للعنوان الرئيسي، فهو يشكل نواة القصائد، خاصة بعد تعرفنا على موضوعها الأساسي والذي يعكس في مجمله الوجه القبيح للحرب، وما تخلفه من دمار للبيوت والأوطان وتهجير السكان. وبمراجعة فهرس عناوين القصائد، نلاحظ أنها عناوين محرضة لمخيلة القارئ ومثيرة للتساؤل، مثل(إعلان الخطيئة، كوابيس اليقظة، أجساد ناقصة..)،وتتميز بلغتها الشاعرية المكثفة التي تستمدها من اختيار الكلمات المتقابلة التي تخلق المفارقة والتضاد، مثل(قبلة مضاءة، بلد مطفأة..)، تضفي هذه اللغة على النصوص أناقة جمالية مميزة.

الحب في مواجهة الحرب

في الحرب يفقد الإنسان الأهل والبيت والوطن، والكثير من الأشياء التي تتحول إلى مجرد ذكرى، تحاول الذات الشاعرة إعادة صياغتها، لكن كيف يمكن التغلب على الحرب لمواصلة الحياة؟

منذ الوهلة الأولى نلاحظ أن الكلمة الافتتاحية، لأول قصيدة(ضحكة امرأة..نباح كلب) التي تتصدر المجموعة الشعرية، هي كلمة(الحب) المؤكدة بالضمير المنفصل (هو)، فالحب الذي يمثل طوق النجاة بالنسبة للشاعر في زمن الحرب، هو الحب ذاته المرفوض في وطن لا يعرف الحب، ويطارد المحبين، يقول الشاعر:
(هو الحب قاتلنا الطليق! 
ينصب لنا الفخاخ أبوابا مغلقة
وحيدان في تجهم البلاد
البلاد التي تكره نفسها 
لكننا ودون أن نثير ارتياب البلاد
مضينا جهة الهروب 
فكان الحب!
وكان خلف الباب من كل قبيلة كاهن يترصدنا).

تغلّب الذات الشاعرة زمنها الشعري، المتمثل في المضارع الممتد، الناقل للأحداث التي لم تنته بعد، فالفخاخ ما تزال تنصب، والأوصياء ما زالوا يترصدون، والبلاد ما تزال تكره نفسها.. وحتى حين تعبّر الذات الشاعرة عن الحدث بالزمن المنقضي، فإنها تهرب جهة الحب الذي يظل في موضع الارتياب والتأهب. مما لا شك فيه، أن الانطلاق من ثيمة الحب لم يأت صدفة، إذ يبدو جليا أن الشاعر يعلي من هذه القيمة الإنسانية التي كانت وما زالت هي طوق النجاة، حين تقسو الحياة على الإنسان، أو حين يعم ضجيج الرصاص، فيبحث الإنسان عن الحب ليحتمي به، خاصة إذا كان هذا الإنسان يمتلك إحساسا مرهفا كالشاعر، وبذلك يكون الشاعر قد انتصر للحب، وآمن بانتصاره على الحرب، ويمكننا تلمّس ذلك في الكثير من اللوحات الشعرية المنتشرة، نختار منها هذه اللوحة الشعرية النابضة بالحيوية، حيث يعود الشاعر في كل مرة إلى قلب المحبوبة، بعد مشاركته في المعارك، ليغتسل من آثار ما علق به، فتكون الحبيبة درعه الحصين الذي يحميه من الانهيار.
(كل يوم تستبيح الحرب شبرا من خارطة القلب
تدنسه بالخوف والرايات وفوهات البنادق
 كل يوم أعود إليك مثقلا بالموت
مهزوما أو منتصرا 
كل يوم تغسلين آثار الدماء على ثيابي
تكنسين شظايا الزجاج في عروقي
تشعلين في مسامي حرائق لذيذة
بضحكة تطغى على صوت انفجار لغم).
تبدو لغة القصيدة مشبعة بالمجازات التي تضفي على اللغة الشعرية، سمتها المميزة أي الانزياح، أو ما يسميه "يان موخاروفسكي" التحريف الذي يحطم معايير اللغة المألوفة، معتمدا التكثيف، مانحا للغة قيمتها الإيحائية ، ما يؤدي إلى الحفر عميقا في مخيلة القارئ، لإشراكه في إكمال النص. ويجدر بنا هنا أن نتساءل، عن ماهية هذه الحرب التي تأتي منها الذات الشاعرة مهزومة حينا، وأحيانا منتصرة؟ إنها وكما تقول في قصيدة (حرب ليست كالحرب)،حرب الإخوة الأعداء المتخفين بأقنعة تنتمي إلى طين هذه الأرض:
(أريد حربا تشبه الحرب
وعدوا هو العدو، بلا قناع من طين هذي الأرض).
     
و(عندما لم تتسع هذي البلاد لنا، حملنا حقائينا ومضينا)، بحثا عن حرية تشمل الجميع، تحضر الحرية  كثيمة أساسية في المجموعة الشعرية، حيث تستحضر الذات الشاعرة، زمنا آخر محملا بملامح شخصية روائية متمردة للكاتب"نيكوس كزانتزاكيس"، شخصية زوربا" القائل:"لا آمل في شيء،لا أخشى شيئًا ،ولا أتوقّع شيئًا ،فأنا حر". تظل الحرية مثار جدل عنيف، وهناك من يحاربها بحجة الوصاية على الآخر. ينحاز الشاعر للحرية، فيقدم لائحته الحياتية رافضا  كل وصاية، عبر ما يسمى بتفاعل النصوص وحوارها، أي علاقة نص حاضر بنصوص سابقة أو معاصرة له، إذ نجد في (زوربا السوري) محاكاة "لزوربا اليوناني" الذي اتخذ من الرقص وسيلة للتعبير عن رفضه لكل منغصات الحياة. تقدم الذات الشاعرة رؤيتها لانعتاقها بلغة واضحة وممتعة:
(قل هي الحرية في ألا أختار طريقا يفضي إلا إلى الرقص،
وأعد الكرّةَ
-بلادك تخلت عنك
لم تترك لك جبهة لتقف فيها
فقف بالرقص).
    
استفادت لغة المجموعة الشعرية، من تركيب العبارة الشفوية ذات الإيقاع الجذاب، المشبع بحمولة اللغة المحلية التي تعكس ثقافة المنطقة، فتأتي اللغة متأنقة، متوهجة كامرأة تبتهج تحت المطر الذي (يهطل ليصل ساق امرأة ترفع ثوبها عن الأرض/تشكله بطرف سحابة صيف عابرة). تحضر المرأة، باعتبارها جزءا مهما في حياة الرجل "الرقّاوي" الذي يتغنى بها في تراتيل ربابته و(يرفع كأسه لنخب الـ"موليا"وهي تعبر المسافة بين بابها/ والرصيف المقابل)، يحضر أيضا، الشاي، مطر الصيف،شجرة الزيزقون..، وتفاصيل أخرى جميلة، تجعلك تتعرف على ما يحبه أهل "الرقّة" التي لا تعرفها، وهي من سوريا التي تظن أنك كمواطن عربي تعرفها.
     
أخيرا، وبما أن الحدود بين الأجناس الأدبية، قد أصبحت (أقل استقرارا من الحدود الإدارية للصين) كما يقر(جاكبسون)، يمكننا الإشارة إلى بعض التقنيات السردية التي تخللت القصائد، وأضفت عليها جمالية مميزة، مع الحفاظ على معمار القصيدة الإيقاعي والتصويري، حيث تجلّت براعة الشاعر في نسج القصائد على شكل حكاية مكتملة العناصر؛ من سارد ومسرود له وحدث وزمان ومكان، تجسّد ذلك في(كوابيس اليقظة)، إذ يحكي السارد حكايته بضمير المتكلم، متوجها إلى مسرود له يحاوره في زمان ومكان محددين. وتحضر أقوال الشخصيات، لنكون أمام حكاية متعددة الأصوات بالاعتماد على صيغة (قالوا)، كما في قصيدة(السعلوّة). واستخدمت تقنية الحوار بشكل فعال، كما برز المونولوج في(عباءة تحت المطر).
تسهم هذه التمازجات الشعرية السردية، في خلق مجال أرحب لأفق القصيدة الدلالي والجمالي.
    
ختاما، لا بد من الإستعانة بالجزء الأول من مقولة "كروتشيه"(على الناقد أن يقف أمام مبدعات الفن موقف المتعبّد..)، لقد كنت مجرد قارئة، وقفت طويلا موقف المتعبّد عند كل ما أبدعه الشاعر، وتحسست بعض مواطن الجمال، ولاحظت التطوّر الذي شهدته قصائده، مقارنة بمجموعته الشعرية الأولى. وأقول أنه لا أحد كالشاعر يمكنه أن يجمّل حياتنا، ويجعل الشعر أجمل، حين يعبّر بصدق عمّا يجيش في النفس الإنسانية ، فيلامس حزنها وفرحها وآمالها. وإذا كان الشاعر قد انتصر لقيمة الحب بانطلاقه منه، ثم عرّج على القبح، ليسمعنا أقوال الحرب، وأقوال المنفيين قسرا، فإنه ختم تجربته الشعرية، بقيمة الحرية التي لا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها، وفي ذلك إشارات موحية للاختيار الصعب الذي قد يتبناه الإنسان، في زمن الصراعات.


ملاحظة:
هذه القراءة منشورة في :المجلة الثقافية 
الرابط: 
http://thakafamag.com/?p=21286



الاثنين، 25 فبراير 2019

قراءات حرة..


رواية: حياة الكسيس زوربا  
الكاتب: نيكوس كزانتزاكيس
ترجمة: محمد حمدي إبراهيم
الهيئة المصرية العامة للكتاب/طبعة متعبة بسبب عدم وضوح الكتابة.




هذه قراءتي الثانية لرواية"حياة الكسيس زوربا"، إذ سبق وأن قرأتها قراءة المتلهف لكتابات نيكوس كزانتزاكيس، وخرجت بدهشة القراءة الأولى للكتّاب الذين نحبهم. ولم أسجل شيئا عن الرواية حينذاك، لانشغالي بانجاز رسالة الماجستير، إذ كنت أسرق سويعات، لأروح عن النفس من عناء الكتب الأكادمية الجافة، وكان زوربا هو الملاذ، لأني كنت مأخوذة بشخصيته، ومنبهرة بطريقة حياته، وفلسفته البسيطة والعميقة في الوقت ذاته. أما قراءتي الثانية هذه؛ فهي قراءة تدبر في ما أراده المؤلف من روايته. قراءة عين فاحصة. 

تقع الرواية في خمسمائة وتسع وأربعين صفحة، من القطع المتوسط، وتنقسم إلى فصول مرقمة من (١ إلى ٢٦ ).
صدّر المترجم الرواية بمقدمة، تضمّنت بعض المعلومات عن المؤلف"نيكوس كزانتزاكيس" المولود في مدينة هيراكيون، بجزيرة كريت (1883، 1957 )، ويعد نيكوس من أكثر أدباء اليونان شهرة، وهو من أدباء الإغريق في العصر الحديث. أبدع المؤلف في مجالات شتى، منها: 
تدبيج أدب الرحلات، قرض الشعر(الأوديسة)، كتابة المسرح، كتابة الرواية، بالإضافة إلى كتابة المقالات الفلسفية والدراسات الأدبية. وأتقن الكثير من اللغات الأوربية. وظل كزانتزاكيس وفيا لمبادئه وأفكاره حتى وفاته. يعرف على كزانتزاكيس، أنه كان يندس بين حشود العامة في المدن الصاخبة، ليقف على أحوال الناس، ويتعرف على أفكارهم وما تجيش به صدورهم. لم يقيد كاتبنا نفسه بأي مذهب، ولا بالتزمت الأخلاقي المصاحب للتدين، لأنه كان يؤمن بحرية الإرادة والفكر. أمضى المؤلف سنواته العشر الأخيرة في مدينة انتيب بفرنسا، وشغل سنة ١٩٤٥ منصب وزير دولة لبلاده، وبعد عام من ذلك عين رئيسا للمكتب التنفيذي لمنظمة اليونيسكو في باريس. وفي سنة ١٩٥٧ أثناء وجوده في المانيا، توفي ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه"كريت". كتب على قبره: (لا آمل في شيء.. لا أخشى شيئا.. ولا أتوقع شيئا.. فأنا حر!).

يقول كزانتزاكيس، إنه لو أراد أن يذكر الأشخاص الذين تركوا أثرا عميقا في نفسه لذكر: هوميروس، برجسون، نيتشه، وزوربا.. ويضيف أنه لو قدر له أن يختار مرشدا روحيا لاختار: زوربا.
وزوربا حسب المؤلف هو عامل مسن كان يحبه كثيرا، لتميزه بالنظرة الفطرية و البراءة الخلاقة، ولإيمانه بمعايشة الحياة وخوض تجاربها. يهتم زوربا بكل شيء موجود في الطبيعة: البحر السماء، الرمل الفراشات الرياح النار الخبز والنبيذ و المرأة ...الخ، ونظرته للكون تتجدد كل صباح، فينظر لموجوداته، بانبهار ودهشة النظرة الأولى.
تتميز هذه الشخصية بالحيوية والتجدد والإقدام والشجاعة، والقدرة على أن يسخر من نفسه ذاتها كما لو كان يملك داخله قوة أعلى من النفس. يمتلك ضحكة مجلجلة عميقة. يغلب عليه المزاح الذي يخرجه من حزنه أو من أي موقف يزعجه، وبذلك فهو يمتلك القدرة على التغلب على كل منغصات الحياة. تمكنت هذه الشخصية من تزويد المؤلف بطاقات روحية عجيبة، كما زوده بمعلومات مفيدة في الحياة والدين والموت والمرأة والغضب والحزن والكد والجد وتجاوز المصاعب.

ويبقى السؤال المطروح: هل كانت شخصية زوربا شخصية حقيقية كما يذكر كزانتزاكيس، وأنه التقاه في حياته وأعجب به، وقرر أن يكتب عنه؟ أم أنه شخصية أسطوية من صنع خيال الكاتب، وبالتالي فما هو إلا صوته الآخر؟

شخصيا، أميل إلى أن زوربا، ظِلُّ شخصية حقيقية لكنها ليست بهذه الصورة العميقة ، والأسطورية التي قُدِّم بها، فقد يكون زوربا يحمل ملامح شخصية عرفها المؤلف، لكنه أضفى عليها من خياله وإبداعه الكثير، والغرض من ذلك، تمرير أفكار المؤلف وفلسفته بطريقة مقنعة، أو على الأقل بطريقة فنية مختلفة. لذلك نجد زوربا في ثنايا الرواية، يمثل صوت المؤلف في الكثير من المرات. 

تناول نيكوس كزانتزاكيس في روايته، ثيمات متعددة؛ كالموت، الحياة، كيفية سرقة السعادة من الحياة. تناول أيضا، ثيمة الخلود وكيفية تجسيده في حياتنا، كما تطرق لثيمة الصداقة، وبدا أنه من الذين يعلون من هذه القيمة الإنسانية، ويحترمونها ويراعون شعور الصديق ويتفهمون اختياراته التي قد لا يكون راضيا عنها، تجلى ذلك مع صديقه "زوربا". عالج المؤلف كذلك، ثيمة الدين وتبين رفضه التام، ونفوره من رجال الدين، بسبب اتخاذهم للدين مطية لتحقيق مآربهم الشخصية. واهتم كزانتزاكيس بشكل واضح، بثيمة الحرية التي شكلت مدار الرواية وبؤرتها المركزية، إذ يبدو تقديس المؤلف للحرية والدفاع عنها.

وفي سبيل توصيل أفكاره، استعان كزانتزاكيس بعدة تقنيات سردية منها الحوارات الطويلة مع زوربا، وتقنية الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه "استافريذاكيس"، كما استعان بالأحلام من خلال احضار طيف صديقه في الصفحات الأخيرة من الرواية. بالإضافة إلى السرد الذي يعتبر الوظيفة الأساسية للسارد، حيث يقدّم السرد على لسان السارد/المؤلف المشارك في الأحداث، كما يمنح السرد لرواة آخرين كشخصية "زوربا " الذي يقدم السرد في صفحات طويلة، باعتباره شخصية أساسية، وإن كان من الواضح أنه يمثل الصوت الآخر للكاتب، الصوت المتمرد على الدين وعلى التقاليد وحتى على الحياة، إنها الشخصية التي تقوم بما يحلو لها دون مراعاة لأي أعراف أو حدود، وسيلتها الرقص والعزف على آلة القانون، والاستمتاع بالحياة إلى أقصى درجة ممكنة.

يكثر السارد/المؤلف من تقنية الوصف؛ وصف الشخصيات بأدق تفاصيلها، يصف وجه زوربا قائلا:(كان وجهه مليئا بالتجاعيد والخدوش وثقوب الحزن، وكأن رياح الشمال والأمطار قد اقتاتت عليه). كما يهتم كثيرا بوصف الطبيعة كعادة الكتاب الواقعيين في الروايات الكلاسيكية، الذين يهتمون بأدق التفاصيل، معتمدين على ما يسمى بالوصف الاستقصائي. يصف أيضا، الرقص بأدق حركاته، مثل وصفه لرقص الشاب في ص442. 

يعد الزمن أهم عنصر في الرواية عموما، لأن الرواية عالم من الأحداث والأفعال المرتبطة ارتباطا وثيقا بالزمن، لذلك يتغلغل الزمن في نسيج البناء العام لهذه الرواية، ويتحدد من خلال اللجوء في كل مرة إلى الزمن الفلكي، يبدو ذلك واضحا منذ البداية حيث تنطلق الأحداث مع بداية انبلاج الفجر، يقول السارد/المؤلف: (كانت المرة الأولى التي عرفته فيها، في ميناء بيرايوس(بيريه) وكنت قد ذهبت إلى الميناء كي أستقل باخرة إلى جزيرة كريت. كان الفجر على وشك أن ينبلج ، وكان المطر يهطل والرياح الجنوبية الشرقية تهبّ بعنف وقوة، وكانت المياه المتناثرة من البحر تصل إلى المقهى المحلي الصغير ، كانت أبواب المقهى الزجاجية مغلقة، وكانت تنبعث من الهواء رائحة بشرية نتنة، ورائحة نبات المريمية. كان الجو في الخارج باردا، وكانت ألواح زجاج الأبواب مغطاة بالصقيع المتجمد جراء الأنفاس المتلاحقة(من مرتادي المقهى). وكان خمسة أو ستة من الرجال العاملين في البحر سهارى طوال الليل، وهم يرتدون ستراتهم البنية اللون المصنوعة من شعر الماعز، كانوا يحتسون القهوة والمريمية، ويرنون إلى البحر من خلف ألواح الزجاج التي يكسوها الضباب)ص45.

يبدو زمن الرواية، منذ الوهلة الأولى وكأنه يسير متقدما نحو الأمام، إلا أننا نتلمس تداخلا في الأزمنة، من خلال حضور الماضي بشكل مباغت، فالسارد يحاول إيهام القارئ بأن فعل السرد يتزامن مع وقوع الأحداث، لكن الحقيقة تظهر أن المؤلف في حركة استعادة للذكريات، بالرجوع إلى الماضي من حين إلى آخر، فتبرز الاسترجاعات، كما نعيش حاضر السارد، من خلال معايشة رحلته إلى كريت مع شخصية "زوربا"...

يبرز عنصر الزمن في الفصل الأخير، إذ يبدو السارد/المؤلف وكأنه يسارع الأحداث لينتهي من قصته، فيلجأ إلى تقنية الحذف الزمني بشكل فعّال، من خلال اقتطاع فترات زمنية طويلة كما في ص٥٣٧ ، (مرت خمسة أعوام طوال، قاسية مرعبة تبدل فيها الطقس وتغيرت الحدود الجغرافية كأنها في حلبة رقص). يستغل السارد/المؤلف هذه الحذوف الزمنية، لينقل للقارئ أخبار الشخصيات ومصيرها، خاصة أخبار زوربا بعد اختفائه، تأتي المعلومات عن طريق الرسائل التي يبعثها زوربا إلى السارد، فيخبرعن سفره إلى رومانيا وصربيا، وزواجه وعمله كجرذ للنفط، كما يقول.

يعتمد السارد في تقديم الأحداث على ضمير المتكلم :(كنت آنذاك جالسا في أحد أركان المقهى، وأنا أرتعش من البد، فطلبت فنجانا آخر من المريمية إذا كان الوسن يداعب أجفاني، وكنت أقاوم النعاس..)ص47. وبلقاء السارد مع زوربا، تنطلق أحداث الرواية المشوقة، حيث يطلب زوربا من السارد اصطحابه إلى جزيرة "كريت" للتنقيب في المناجم، وبعد محاولات عدة، يقنعه بأنه سيكون رفيقا جيدا، وبدوه أعجب السارد بزوربا وبما يتصف به من طلاقة اللسان وسرعة البديهة، وشعر بأنه رجل على الفطرة ، صارم ومستمتع بحياته بطريقة مغرية ومختلفة، وله فلسفته الخاصة في الحياة. وفي هذا الفصل الأول، يدور حوار بين السارد/المؤلف وزوربا، فيتسلم زوربا زمام السرد، مقدما بعض تفاصيل حياته ومغامراته، وزواجه وتعلمه الموسيقى على يد"رجيب أفندي" الرجل التركي المسن، وشرائه لآلة القانون، كما يقدم أخبارا عن قريته..إلخ.
بالنسبة للسارد/المؤلف، نحن أمام رجل مثقف، وكاتب يهوى القراءة والكتابة، وهو الملقب من طرف صديقه "بجرذ الأوراق"، وقد اصطحب في رحلته هذه كتاب"دانتي" ليؤنسه في سفره. وجاءت رحلة السارد/المؤلف بعد نصيحة صديقه، الذي طلب منه أن يبتعد عن الحبر والأوراق، ويخرج إلى الحياة ليمارسها ويتعلم منها الكثير.

الرواية ومآلات التأويل:


من متابعة الأحداث والسرد، نتبين أن الرواية تعالج هواجسا إنسانية تنتاب السارد/المؤلف، يحاول طرحها بطريقة فنية جميلة على لسان شخصياته، خاصة شخصية زوربا وشخصية صديقه المقرب "استافريذاكيس".
تناول السارد طبيعة العلاقة بين الإنسان وربه والاعتقاد بوجوده، وما إذا كان الإيمان يسلبنا حريتنا؟ تجلى ذلك في حواره مع الفتاة. كما حاول السارد أيضا، الإجابة على السؤال: من أين جئنا؟ وإلى أين نحن ماضون؟ في ص483، وقد أورد السؤال على لسان زوربا، بعد وفاة المدام "أورتانس" خطيبته، وبعد أن حضرا حادثة ذبح الأرملة التي حاول زوربا الحيلولة دون قتلها لكنه فشل، وتم ذبحها من طرف القس الذي أقدم على ذلك، عندما رأى أن زوربا قد تمكن من أخ الرجل المنتحر، والذي قرر الانتقام من الأرملة، وسانده أهالي القرية ورجال الدير.. 

يمكننا القول، إن السارد ومنذ البداية، يحاول أن يقدم تفسيرا لأهم مفاهيم الحياة والوجود والسعادة والألم والحزن والموت، والحرية والمرأة التي اعتبر أنها كائن وإنسان مثلنا، كما قال زوربا. فزوربا هو الشخصية المكلفة من طرف السارد، لتجيب على بعض هذه الهواجس التي تؤرق الإنسان منذ وجوده إلى أن يسلم روحه للموت. 

وزوربا رجل أمي لم يتعلم في المدارس لكن الحياة والتجارب صقلته، ومنحته المعرفة والحكمة التي كان يقدمها في كل مرة، في ثنايا السرد على شكل وصايا، يوصي بها صديقه السارد المتعلم الذي لا تفارقه الأوراق والكتب، وملخص نظرة زوربا للحياة يكمن في أن، السعادة لا تمنح لك بل عليك نهبها من الحياة، والتمتع بها إلى أقصى حد تستطيعه. عدم الركون إلى الحزن فالحياة لا تتسع له. مجابهة الحياة وعدم الرضوخ لأي قوانين أوشرائع مهما كانت، وعدم التنازل عن الحرية. بالإضافة إلى اتخاذ الرقص في كل الحالات، وسيلة للتخلص من الألم الذي قد يتسرب إلى دواخلنا. 

برزت شخصية زوربا، كشخصية متميزة، فريدة من نوعها، وإن كانت نهايته غير متوقعة بالنظر إلى طبيعته الساخرة، ومزحه الذي طغى على السرد، لكن المؤلف أراد من هذه النهاية، تقديم حقيقة أخيرة، مفادها: أن الذين نحبهم كذلك نفقدهم بطريقة موجعة.


قدمت المرأة بصورة سيئة، ورغم أن زوربا قد أقر للسارد أن المرأة كائن وإنسان مثلنا، إلا أنها تعامل كشيء يحتاجه الرجل، وسرعان ما يستغني عنه، إنها مجرد جسد خلق للمتعة والاستمتاع بها، مع تحقيرها وشتمها بأفظع الصفات، وتحميلها مساوئ العالم، لأنها هي الشيطان وبؤرة الشر، هذه الصورة القاتمة التي قدمتها هذه الرواية عن المرأة، جعلتني أصاب بالغثيان، وقادتني إلى التساؤل : هل كان زوربا فعلا يقدر المرأة ويتعاطف معها، دون النظر إلى جمالها أوسنها؟ هل المرأة فعلا، كائن يحتاج فقط للعاطفة، والهمس في أذنها بحلو الكلام؟ هل التعاطف معها، يعني تلبية حاجاتها الجنسية فقط؟

في الصفحات (200)الأخيرة يتجلى تركيز السارد على رسم شخصية مدام "أورتانس "، ووصفها بشكل كاريكاتوري ساخر، والسخرية من ماضيها، وكيف صارت اليوم عجوزا تعسة حسب تعبير "زوربا" الذي لا ينفك يشفق عليها ليسعدها، لكنه لا يتردد في إطلاق أسوأ الصفات عليها، يقول:(لقد تأخرت الخنزيرة، لقد تأخرت الكلبة العاهرة لقد تأخرت الفاسقة العاهرة)ص423.  رغم كل ذلك، فقد حقق لها أمنيتها في إعلان خطبته لها، لكنه مع السارد يسخران منها ومن شكلها باعتبارها عجوزا. 

أعتقد أن المرأة، قد قدمت بأسوأ صورة يختزنها المجتمع في مخياله الجمعي، وينطبق ذلك على الغرب كما في الشرق، كما سبق وإن ذكرنا.


أخيرا، يمكن القول، إن هذه الرواية تحفة كلاسيكية، وجبت قراءتها، فقد استطاع كزانتزاكيس أن يقدم لنا عملا أدبيا متميزا، عميقا في أفكاره، بسيطا في أحداثه، يعتمد السخرية كملح للسرد الذي يجعل متذوقه لا يكتفي..

 لابد من التنويه، إلى أن ترجمة الرواية جيدة في عمومها، تتميز بالحس الشاعري الجاذب للقارئ، كما أن إحالات المترجم وشروحاته في الهامش كانت جد رائعة ومفيدة.


أجمل اقتباس:
قال زوربا للسارد:"لا لست حرّا؛ فالحبل الذي أنت مقيّد به أطول قليلا مما هو في حالة البشر الآخرين، وهذه هي حقيقة الأمر ببساطة"