كورونا والعمى الأبيض لجوزيه ساراماغو
المصدر : العربي الجديد
https://www.alaraby.co.uk/blogs/2020/4/19/%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D8%B6-%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%B2%D9%8A%D9%87-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%BA%D9%88
فريدة إبراهيم
19 أبريل 2020
من الصعب أن تخرج سالما، بعد أن تصل إلى
نقطة النهاية في رواية العمى لساراماغو. إذ تبدو قراءة الرواية، وكأنها ساحة معركة
تدخلها النفس طواعية، لكنها لا تستطيع الخروج منها، رغم محاولة النجاة من عالمها الديستوبي
المرير، الذي استطاع السرد أن يتقن تشخيص تفاصيله؛ فالقوي يجهز على الضعيف، والحكومة
تتسيد على شعبها المنكوب، تخاطبه بود بينما في العتمة، تشهر سلاحها لتقتله.
بناء على ما سبق، هل يمكننا القول: إن رواية
العمى اكتشفت، ما لا يمكن إلا للرواية اكتشافه، حسب هيرمان بروخ، وعلى لسان كونديرا،
وهل زودتنا بمعرفة مجهولة، وقفنا اليوم-وبعد مرور ما يزيد عن عشرين سنة من صدورها
1995- على واقعيتها التي كانت ربما، في حينها تبدو مجرد فانتازيا، لكاتب يعذب شخصيات
روايته، وذلك بالنظر إلى ما نعيشه اليوم من واقع مخيف، بسبب وباء كورونا الذي تفشى
في دول العالم؟
إن ما يُحدثه وباء كورونا في عالمنا اليوم،
يماثل في جوانب كثيرة منه، ما شخّصه ساراماغو في روايته عن وباء العمى الأبيض المعدي
الذي أصاب كل الذين اقتربوا من أول مصاب، اكتشف فجأة، وهو في سيارته ينتظر إشارة المرور،
أنه لا يرى. فانتقلت العدوى إلى الرجل الذي أوصله إلى بيته، ثم انتقلت إلى عيادة طبيب
العيون، فأصابت شخصيات الرواية التي تصادف وجودها هناك، بالإضافة إلى طبيب العيون، وهكذا تفشى الوباء بين الناس، لينتهي بإصابة
أغلب سكان المدينة. وبسبب عجزها عن احتواء المصابين، وتمدد الوباء الذي طاول الجيش
والشرطة، تقاعست الدولة عن أداء واجباتها، وانسحبت من المدينة التي بقيت بلا رقيب ولا
نظام، فسادت الفوضى وتغول الإنسان، وأصبح الشر هو الحاكم المطلق، وبرز الاختلال في
النظام المجتمعي، وانعدمت الخدمات؛ فاختفى الماء، والغذاء، وغزت القمامة الشوارع، وتكاثر
العفن، وتلوث الجو بسبب الجثث المتحللة التي نهشتها الحيوانات الضالة، والجائعة.
وفي المحجر، تعيش الشخصيات المصابة بالعمى
الأبيض، على أمل أن يحاصر الوباء في مكان واحد، إذ تلقي الحكومة بهؤلاء المصابين في
أجنحة لا تسعهم، وهم في تزايد كل يوم، لذا أصبح الحل الأمثل، هو القضاء عليهم بالرصاص،
"كان الجنود يفضلون تسديد بندقياتهم وإطلاق الرصاص، من دون ندم، على أولئك المعتوهين
الذين يتحركون أمام أعينهم كسرطانات عرجاء(..) إن مشكلة هؤلاء المحتجزين العميان، يمكن
القضاء عليها فقط بالقضاء على معظمهم (..)، تماما كما يبتر المرء طرفا مصابا بالغرغرينا
لينقذ بقية الجسد". هكذا، تنظر السلطة الحاكمة، لكل من يصاب بالوباء. وهو ذاته،
ما يحدث مع المصابين بوباء كورونا الذي يجتاح عالمنا، إذ تكثر الطرق التي يتحول فيها
الإنسان إلى حيوان متوحش. وما تابعناه من قصص وأخبار عن تفكير البعض،
على المستوى الفردي أو الجماعي، بالتضحية بكبار السن، أو بالفقراء والمشردين.. باعتبارهم
الحلقة الأضعف في الدولة، خير دليل على ذلك. فالإنسان، يعامل كسلعة تباع وتشترى، ويُتخلص
من الكاسد منها. بينما يبقى القوي صاحب المال والسلاح، وإن كان وغدا شريرا، وهو ما
استطاع ساراماغو أيضا أن يجسده في سرده، من خلال مجموعة العميان اللصوص الذين يمتلكون
مسدسا، تمكنوا بفضله من الاستحواذ على طعام بقية العميان، وطالبوهم بدفع ما لديهم من
أشياء ثمينة، ليتحصلوا على حصتهم التي تمنحها لهم الدولة، ولما نفد ما عندهم من مال،
قايضوا الأكل، بأجساد النساء الموجودات في المحجر.
تعكس هذه المشاهد المؤلمة، وضاعة الإنسان
وتوحشه. فساراماغو لم يتخيل هذا الوضع، بل استقاه من واقعنا المعاصر، وهو القائل:
"كثيرة هي الطرق لنصبح حيوانات"، يتجلى ذلك في تعامل الدول الكبرى التي تسيطر
على مقدرات الدول الضعيفة، بكل الطرق اللاأخلاقية، وتعيد بيع ما أخذته منها بمبالغ
باهظة. وهذه الدول ذاتها، نراها اليوم، وقد عجزت عن توفير معدات التصدي لوباء كورونا،
بسبب تزايد أعداد المصابين بالوباء، فلجأت إلى تهديد دول أخرى أو سرقة المعدات المتجهة
إليها، أو المضاربة على بعضها، لتوفير أجهزة التنفس، دون مراعاة أدنى مبادئ الإنسانية
في التعامل والتكاتف، يقول ساراماغو: "عندما تواجه الطبيعة البشرية الموت، يتوقع
منها أن يتلاشى حقدها وسمّها"، وهو ما لم يحدث في التصدي لجائحة كورونا، لأن العالم
المتحضر، قد أصيب بالعمى الأبيض، إنهم "بشر يستطيعون أن يروا ولكنهم لا يرون"،
بهذا المشهد الحواري تنتهي رواية العمى؛ وهو مشهد يفك شيفرتها، ويوجه القارئ إلى الدلالات
والمعاني المبتغاة. فرواية العمى موغلة في الرمزية والسخرية اللاذعة حد الألم؛ تسخر
من هذا العالم وحضارته المتغولة، وتخليه عن مبادئه التي هي أساس كينونته.
تعتمد الرواية على شخوص بلا أسماء ولا صفات،
ولا أماكن محددة، فكل العالم يصلح أن يكون مدينة العميان. والزمن متوقف؛ فلكل شخصية
زمنها المتوقف عند اللحظة التي صرخت فيها: لا أرى.
لقد صدق ساراماغو الرؤية؛ فهو الوحيد الذي
راقب، بعد أن رأى ونظر. واستطاع أن يزودنا، بما عبرت عنه آذار نفيسي، بالفهم الانتقادي
لحاضرنا؛ فالمعرفة الخيالية –حسبها- طريقة لفهم العالم وتكوين صلة معه، إنها تربطنا
بماضينا، وتجعلنا قادرين على تصور حياتنا، كما يحتمل أن تغدو عليه.
المصدر : العربي الجديد
https://www.alaraby.co.uk/blogs/2020/4/19/%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D8%B6-%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%B2%D9%8A%D9%87-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%BA%D9%88