كدأب
الكتاب الواقعيين، انشغل الكاتب محمد ديب في رواياته، بتصوير الواقع اليومي لحياة
الجزائرين في ظل استعمار غاشم، مجسدا بذلك ما قاله بلزاك عن هدف الواقعية في
الأدب؛ أن تصبح التعبير عن التفاهة اليومية. وبالمفهوم الإيجابي لمعنى التفاهة
اليومية، تتحول التفاصيل التي يُسلّط عليها الضوء، في روايات ديب، إلى شكل من
أشكال النضال ضد الاستعمار الفرنسي. فكيف يمكن أن تكون الممارسة اليومية للحياة،
نضالا؟ النضال من أجل البقاء، النضال من
أجل فهم الذات، النضال من أجل التحرر.
جواب
ذلك، نجده في المتوالية القصصية "صيف أفريقي" التي يظهر في مؤشرها
الجنسي بأنها رواية، بينما هي عبارة عن مجموعة من القصص، ترتبط بعض هذه القصص
وتتواشج، في حين تنفصل باقي القصص، فلا رابط يجمع بينها. ومن المعلوم أن
المتواليات القصصية، لا بد لها من قاسم مشترك يجمع بين قصصها، وفي "صيف أفريقي"، نجد أن القاسم المشترك بينها جميعا؛ صيف حار مضجر مع اشتداد أوار
الحرب بين الثوار والجنود الفرنسيين.
تتعدد
شخصيات القصص، فتتعدد مستوياتها وبيئاتها وأفكارها ووجهات نظرها، وهي نماذج بشرية
مستقاة من عمق الواقع الجزائري، تعاني بعضها من التشتت، والضياع، والمصير المجهول
بسبب القهر الذي يفرضه الاستعمار على الجزائريين. في خضم ذلك لا تتوقف الحياة، إذ
يمارس الجزائري يومياته المضنية التي تشكل جزءا مهما من النضال الثوري، جاء على
لسان إحدى الشخصيات قولها:"حياتنا؟ أية غرابة في حياتنا. إنها تشبه حياة
الناس جميعا"؛ حياة عادية لأناس تآلفوا مع وضعهم اليومي، في ظل استعمار ضيق
عليهم معيشتهم.
يلتقط
محمد ديب أدق تفاصيل الحياة اليومية للجزائرين؛ العائلات الميسورة القاطنة في
المدن، حالها أفضل من غيرها، وهمومها اليومية تبتعد قليلا عن هموم الأسر الفقيرة
التي تشكل أغلبية السكان الأصليين، وتنتشر في القرى والأرياف. تبدأ صباحات العائلة
الميسورة، باعتناء الأم بنباتات حديقة البيت، وبينما تحضّر الخادمة فطور الصباح،
تناقش الأم مع الأب مصير ابنتهما التي نالت الثانوية وتود العمل كمعلمة، والأم ترغب
في تزويجها من ابن عمها الذي لا هدف له، سوى اللهو.
يقابل
ذلك، يوميات عائلة فقيرة في الريف تعيش على وقع الانفجارات الليلية والرصاص، ومنذ
الفجر يشد الأب الرحال على حماره، متوجها إلى المدينة ليخبِز الخبز، فيتعرض
لمضايقات الجنود على الحواجز؛ تفتيش هويته، وإذلاله برفع يديه إلى الأعلى وتفتيش
ملابسه باعتباره جزائريا مشبوها، بينما المارة من الأوربيين يراقبونه بسخرية
وتهكم، وحين يسمح له بدخول المدينة، يتوجه لشراء مؤونته وتبادل الأخبار مع الباعة،
عن اختفاء بعض الرجال الذين قتلوا أو اعتقلوا، أو هؤلاء الذين التحقوا بصفوف
الثوار في الجبل.
يهتم
الكاتب بتتبع الظواهر المنتشرة في السوق، حتى تلك التي لا نلقي لها بالا، إذ
يصورها بطريقة تعكس نمط حياة الجزائري آنذاك؛ عرافات يمارسن دجلهن، رجال يبيعون
العقاقير التي تشفي من كل الأمراض، شحاذون يطوفون المحلات، الباعة المتجولون،
بائعات الكعك، الإسكافيون يرقعون الأحذية في الهواء الطلق، باعة سقط المتاع
يتبادلون السلع...إلخ، تلك هي جزائر الخمسينيات القابعة تحت الحكم الفرنسي، وذلك
هو الشعب الجزائري الذي يبدأ نضاله من إقباله على الحياة، وتحدي الصعاب من أجل
الوصول إلى لب القضية، المتمثل في الإصرار على البقاء على هذه الأرض، لإثبات أن
لها أهلها الذين يتشبثون بها، رغم التنكيل والاعتقال والقتل، وكلهم ثقة بأن ذلك لن
يدوم،"كم سيدوم هذا ؟ليس هناك من يعلم، ومع ذلك فإنني على ثقة(..) أن ذلك
سينتهي".
لا
تمتلك كل الشخصيات إرادة متساوية لتقبل الحياة، وممارستها كما يفرضها الوضع الخاضع
للمحتل، هناك شخصيات قلقة تائهة وسط أسئلة لا جواب لها، تبحث عن ذاتها، عن هدفها
في الحياة، عن جدوى التواجد في الحياة من الأساس، "إنني قلقة قلقا رهيبا وليس
في استطاعتي أن أحدد سبب ذلك. لماذا نسمح بأن تأتي إلى العالم كائنات لا تعرف ماذا
تصنع بالحياة ؟"، حين تضيق مخارج الحياة في وضع يسيطر عليه صوت الرصاص، وآفة
العقول المتحجرة التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية، فإن المرأة تنحسر على ذاتها،
وتعيش قلقها دون أن تفقد الأمل.
إن
الشقاء الذي يولّده القهر الاجتماعي، صنيع الاستعمار الغاشم في تضييقه على حياة
الناس، بحواجزه الشائكة وإذلاله للذات الجزائرية والتنكيل بها ظنا منه أن ذلك يكسر
إرادتها، لكن الأصوات الحالمة بالحرية لم تخفت، إذ يأتي الصوت مدويا، "إنني
أحلم بحياة أخرى بشىء يحلق فوق حياتنا اليومية وبعالم حر"، وهنا يتحول سؤال
الذات المضطربة، من القلق إلى البحث عن عالم آخر تسوده الحرية التي تنقص هذا الوطن
الأسير، والبحث عن قيمة للإنسان الذي رخصت حياته في وطنه، باعتبار الإنسان هو
معيار كل شيء، كما يراه الكاتب. وفي محاولة البحث عن الذات، يكتشف الجزائري ضرورة
معرفة واجبه ليقوم به، فكان امتحانه الأول، القضاء على الإدارة الفرنسية الجاثمة
على صدر الوطن، والتي لا تدخر جهدا في إذلال المواطن البسيط، لذا جاء الصوت مرددا،
«قد يتغيّر ذلك ذات يوم (..) تُرى أيَكون ما ينقُصُنا هو أن يتهيّأ لنا كيان على
الأرض؟".
وكما
أن في الحروب، لا يمكن أن نجد بطلا خارقا يخوض المعركة وحيدا، إذ لا بد من تآزر كل
المجموعة، خلت المتوالية القصصية من البطل المنفرد، وأدت كل الشخصيات دور البطولة،
وظلت النهاية مفتوحة على احتمالات المعركة التي يخوضها أصحاب الأرض ضد الغزاة
المستعمرين.
فريدة إبراهيم كاتبة وباحثة من الجزائر
رابط المقال في العربي الجديد