الرواية:
آموك سعار الحب للكاتب: ستيفان زفايغ
المترجم:
ناظم بن إبراهيم
دار مسكلياني
يعرّف
المترجم، الآموك: بأنه سلوك إجرامي لاحظه الدارسون في مناطق مختلفة من العالم. وتم
تحديد تسميته الإثنوغرافية في ماليزيا. وهو سعار مفاجئ يركض على أساسه المريض بلا
توقف قاتلا كل من يعترضه. ولم يتوصل إلى تحديد سبب واضح له، ولا إلى معالجته إلا
عن طريق قتل المريض في أسرع وقت ممكن.
ويذكر ايضا، أن العنوان
الحرفي للرواية هو: الراكض في حالة آموك. وهي حالة سعار عنيفة سيتأسس عليها مجمل
السرد في هذه الرواية.
يستخدم
"زفايغ" حالة المريض بالآموك، ليسقطها على بطله في
حالة شغفه العميق والمفاجئ بامرأة عابرة. لذلك يذكر المترجم، وبناء على تيمة الرواية، أنه يفضل أن يكون العنوان "سعار الحب" لأن أساس الآموك المقصود هو
الشغف المفاجئ بالمرأة، للعلم أن الترجمة الفرنسية كما ذكر المترجم، كانت"مجنون ماليزيا".
تقديم الرواية:
زمن الرواية:
يقول السارد:"ها أنا الآن أحاول استحضارها وترتيبها لإعطاء صورة واضحة عن العالم الصاخب الذي كان يتبدى بين عيني"9. تظهر الجملة الزمنية "ها أنا الآن"، وعي الذات الساردة بمرور الزمن، ومحاولة تسجيل الزمن الحاضر الذي تنكتب فيه الرواية التي تعتبر استرجاعا واستحضارا لحادثة سبق حصولها منذ سنة 1912 وها هو الآن يستحضر ويسرد أحداثها. فحاضر الرواية أو زمن خطابها، هو لحظة استرجاع السارد/المؤلف للحادثة
التي وقعت في 1912، وهو زمن القصة أو الأحداث.
يبدأ السارد/المؤلف، بذكر حادثة
غريبة مرت به في سنة 1912، أثناء تفريغ حمولة باخرة عابرة للمحيطات في ميناء نابولي،
لأنه كان من ركاب السفينة "أوسيانيا، ولم يكن السارد قريبا من الحادثة،
ولا شاهدا عليها لأنها وقعت ليلا حين كان عمال السفينة منشغلين بإنزال حمولتها،
لكنه يذكر أنه يمتلك بعض الافتراضات التي لم يبح بها في وقتها، وتنطوي على التفسير
الحقيقي لهذه الحادثة. يقول إن:"مرور كل هذه
السنوات يسمح لي الآن بالاستفادة من تلك
المحادثة السرية التي سبقت هذه الواقعة الغريبة مباشرة"ص7.
وكانت السفينة التي يتحدث عنها السارد، قادمة من كالكوتا بالهند، وقد ذكر المترجم في الهامش أن"زفايغ" كان قد زار الهند في 1909 وظل
بها أكثر من 6 أشهر حيث زار كالكوتا وسيلان ومادراس والاندوشين). وهو ما قد يدعم القول بأن "زفايغ" يستعين بقصصه الخاصة، أو بتلك التي تمر بالقرب منه في الواقع، ليكتب رواياته التي يضفي عليها من خياله المبدع الكثير.
ذكر السارد/المؤلف أن سفره كان في مواسم الأمطار، حيث تكون أغلب الغرف محجوزة، لذلك وجد صعوبة في تأمين مكان لائق في هذه
السفينة، فاكتفى بمقصورة صغيرة غير مريحة في الطابق السفلي وسط الباخرة، يصفها بالقول:"كانت الباخرة حقا محملة فوق طاقتها، وكانت المقصورة رديئة. قمرة
ضيقة لصيقة بالمحرك لا يضيئها غير خيط ضوء خافت يدخل من كوة دائرية في سقفه، يمكنك أن
تستنشق في هوائها الخانق والندي رائحة الوقود والعفن، ولا يمكنك أن تهرب لحظة
واحدة من أزيز المروحة الكهربائية العلوية وهي لا تفتأ تدور حول رأسك مثل خفافيش
مجنونة. في الأسفل كان المحرك يلهث ويئن مثل عامل فحم لا يتوقف عن الصعود والنزول
من تفس الدرج لاهثا، وفي الأعلى، يمكنك أن تسمع باستمرار وقع أحذية المسافرين
أثناء تنزههم على السطح" ص8. ويضيف:"المقصورة أشبه
بالقبر"8 .
بعتمد السارد/المؤلف، على الوصف الخاطف الذي يميز الرواية المعاصرة، حيث لا يشكل الوصف وقفا لزمن السرد، بل يدفع الأحداث إلى الأمام، ويشكل مقطعا فنيا جماليا يتزين به السرد. يواصل السارد/المؤلف وصف السفينة وممراتها والأشخاص على سطحها، من خلال مقاطع وصفية
على شكل "صور سردية".
تجدر
الإشارة إلى أن "زفايغ" يتبع في هذه الرواية التقنية ذاتها التي اتبعها في رواية "رسالة من مجهولة"، أي تقنية الاعتراف أو التداعي الحر، حيث نسمع صوت بطلة تلك الرواية التي ظلت بلا اسم، حين اعتزمت الاعتراف بقصتها، من خلال كتابة
رسالة إلى حبيبها الكاتب الذي لم يكن يعلم بوجودها ولا بحبها له، حيث تخبره في
الرسالة عن رغبتها في الحكي، وهي الرغبة ذاتها التي نجدها مجسدة في رواية "آموك"، إذ نجد
الرجل الغريب الذي يختبئ في ركن من أركان السفينة متواريا عن كل الأنظار، وحين
يلتقي به السارد/المؤلف صدفة ويتقرب منه يطلب منه أن يسمعه، لأنه يريد أن يحكي، أن يعترف، يقول:"أريد أن أطلب منك شيئا..أقصد أريد أن أروي لك شيئا.. أعرف أعرف كم هو
سخيف من ناحيتي أن أتوجه بهذه الطريقة إلى أول شخص ألتقي به.. لكن أنا، أنا في
حالة نفسية فظيعة، لقد وصلت إلى نقطة يتحتم علي فيها أن أتحدث إلى أحدثهم.. أو
سأضيع"ص19. ويضيف:"أن أروي لك قصتي الخاصة"ص22.
وعليه يمكن القول: إن "زفايغ" لا يكف في رواياته عن لعب دور المحلل النفسي الذي يغوص
عميقا في دواخل شخصياته، ليخرح كوامنها بطريقة تشكل له سردا مشوقا، ينبني على تتبع
أدق تفاصيل المشاعر والأحاسيس، وما يختلج في النفس البشرية المحبطة والسعيدة
والخائفة والعاشقة والهاربة.. وغيره من النماذج التي قدمها بصورة المحلل النفسي.
تدور
أحداث رواية "آموك"، حول حادثة يسترجعها السارد/المؤلف، وهي حادثة وقعت
حين كان متجولا ليلا على ظهر السفينة، فالتقى بأحد المسافرين المتوارين في
ركن قصي، هربا من عيون الركاب، تقرب منه فوجد لديه استعدادا ليحكي
قصته.
هذا المسافر هو بطل الرواية، وهو طبيب من أوربا مبتعث للعمل مدة عشر سنوات في قرى ومناطق نائية بآسيا، بسبب سرقته لصندوق مال المستشفى، إذ كان يعاني من إفلاس مالي، ومن أجل امرأة أقدم على فعلته. يقضي الطبيب أيامه الرتيبة في هذه المناطق التي تخلو من امرأة بيضاء، كما يقر بذلك، إلى أن جاءته امرأة جميلة من الطبقة الثرية، تطلب منه مساعدتها مقابل مبلغ مالي كبير، بشرط رحيله من البلد بعد إجراء عملية إجهاض لحملها الناتج عن علاقة خارج نطاق المؤسسة الزوجية. ولأن شخصية المرأة، كما بدت للطبيب، شخصية معتدة بنفسها ومتعالية، وهو ما لم يرق له، فقرر إذلالها مادامت هي التي تحتاجه، طالبا منها أن تتوسله لكي يساعدها، ثم اقترح
عليها شيئا آخر موحيا لها برغبته فيها، مما أشعرها بالغضب واحتقاره والسخرية منه، وهو ما أشعل نار الحقد عليه، وأحس
بكراهيتها له، فخرجت
من عيادته هاربة منه.
أحس الطبيب بفداحة طلبه، فلحق بها ليعتذر عن خطئه، لكنه لم يتمكن من ذلك لاعتراض
خادمها له. لكنه استطاع أن يسأل ويتعرف عليها؛ فهي زوجة رجل ثري سيعود من سفره بعد أيام قليلة.
يصاب
الطبيب بما يشبه السعار، لأنه رغب في هذه المرأة الجميلة التي رفضته، مما
أشعره بالإهانة وأراد أن يصحح خطأه بأن يساعدها دون أن يطلب منها شيئا، لكنها كانت
قد حسمت أمرها ولم ترد مقابلته مرة آخرى. وسلمت
السيدة نفسها إلى إحداهن من اللواتي يشتغلن بطريقة بدائية، معرضة نفسها للخطر، إذ
تعرضت إلى نزيف حاد، مما اضطر خادمها للاستعانة بالطبيب ذاته لينقذها، لكن الوقت كان قد فات.
يقرر الطبيب مساعدة هذه السيدة، من خلال الاحتفاظ بسرها، وعدم ذكر سبب موتها، وهدد طبيب العائلة الذي أراد أن يعاين سبب
الموت، هدده بالقتل إذا لم يزور التقرير، ويذكر أن الموت كان بسبب سكتة قلبية مفاجئة ، نفذ طبيب العائلة ما طلبه منه. ثم
اختفى البطل/الطبيب الذي عاد إلى أوربا على ظهر السفينة "أوسيانيا" باسم مستعار، وشاهد زوج الضحية على السفينة نفسها مصطحبا معه تابوتا.
بعد
انتهاء البطل/الطبيب من سرد حكايته على السارد/المؤلف، يذكر هذا الأخير، أنه بعد لقاء هذا الرجل، وأثناء توقف السفينة بإيطاليا، قرأ أن الصحف،كتبت عن حادثة غريبة، يقال أن أحدهم
رمى تابوتا كان على نفس السفينة ، في قعر البحر، فسقط معه زوج السيدة المتوفية. يقول:"حدث لاحقا أن أتيحت لي فرصة قراءة قصة رومانسية، نشرتها الجرائد الإيطالية، عن حادث مزعوم في ميناء نابولي، كانوا على حد قولهم، بصدد إنزال نعش واحدة من أهم نساء المستعمرة الهولندية من الباخرة إلى زورق، في الليل(...) وبينما كان زوج الضحية حاضرا، انزلق النعش وابتعد مسافة حبل كامل، وسقط فجأة جسم ثقيل من أعلى الباخرة إلى البحر، ساحبا معه في سقوطه الزوج والنعش، ومن يحملونه. أكدت إحدى الجرائد أن مجنونا صعد إلى الزورق منذ بداية إنزاله، بينما بالغت اخرى ، وقالت إن الحبل انفلت لأنه لم يكن يحمل وزنا ثقيلا(...) تم التمكن من إخراج حاملي النعش وزوج الضحية من الماء سالمين معافين، وفي المقابل، نزل النعش بكل ثقله إلى القاع، ولم يتمكن من إنقاذه إحد. بالتزامن مع ذلك ظهرت في الجرائد، قصة قصيرة أخرى، تعلن عن العثور على جثة رجل في الأربعين من العمر، يبدو أن القراء لم يربطوا بينها وبين قصة النعش الرومانسية. أما أنا، فبمجرد أن انتهيت من قراءة هذه الأسطر سريعا، حتى لمحت فجأة، وراء جريدتي، الوجه الشاحب والنظارتين اللامعتين لشبحه"ص89.
هكذا ينهي المؤلف روايته، فاتحا الباب أمام القارئ ليختار النهاية التي يراها مناسبة، وأقرب إلى الحقيقة، رغم أن ذلك يبدو صعبا، لكن هدف المؤلف هو إشراك قارئه في التأويل وإنتاج المعنى؛ وهي غاية يسعى إليها كل كاتب، لأنها تكمل جماليات النص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق