الاثنين، 25 فبراير 2019

قراءات حرة..


رواية: حياة الكسيس زوربا  
الكاتب: نيكوس كزانتزاكيس
ترجمة: محمد حمدي إبراهيم
الهيئة المصرية العامة للكتاب/طبعة متعبة بسبب عدم وضوح الكتابة.




هذه قراءتي الثانية لرواية"حياة الكسيس زوربا"، إذ سبق وأن قرأتها قراءة المتلهف لكتابات نيكوس كزانتزاكيس، وخرجت بدهشة القراءة الأولى للكتّاب الذين نحبهم. ولم أسجل شيئا عن الرواية حينذاك، لانشغالي بانجاز رسالة الماجستير، إذ كنت أسرق سويعات، لأروح عن النفس من عناء الكتب الأكادمية الجافة، وكان زوربا هو الملاذ، لأني كنت مأخوذة بشخصيته، ومنبهرة بطريقة حياته، وفلسفته البسيطة والعميقة في الوقت ذاته. أما قراءتي الثانية هذه؛ فهي قراءة تدبر في ما أراده المؤلف من روايته. قراءة عين فاحصة. 

تقع الرواية في خمسمائة وتسع وأربعين صفحة، من القطع المتوسط، وتنقسم إلى فصول مرقمة من (١ إلى ٢٦ ).
صدّر المترجم الرواية بمقدمة، تضمّنت بعض المعلومات عن المؤلف"نيكوس كزانتزاكيس" المولود في مدينة هيراكيون، بجزيرة كريت (1883، 1957 )، ويعد نيكوس من أكثر أدباء اليونان شهرة، وهو من أدباء الإغريق في العصر الحديث. أبدع المؤلف في مجالات شتى، منها: 
تدبيج أدب الرحلات، قرض الشعر(الأوديسة)، كتابة المسرح، كتابة الرواية، بالإضافة إلى كتابة المقالات الفلسفية والدراسات الأدبية. وأتقن الكثير من اللغات الأوربية. وظل كزانتزاكيس وفيا لمبادئه وأفكاره حتى وفاته. يعرف على كزانتزاكيس، أنه كان يندس بين حشود العامة في المدن الصاخبة، ليقف على أحوال الناس، ويتعرف على أفكارهم وما تجيش به صدورهم. لم يقيد كاتبنا نفسه بأي مذهب، ولا بالتزمت الأخلاقي المصاحب للتدين، لأنه كان يؤمن بحرية الإرادة والفكر. أمضى المؤلف سنواته العشر الأخيرة في مدينة انتيب بفرنسا، وشغل سنة ١٩٤٥ منصب وزير دولة لبلاده، وبعد عام من ذلك عين رئيسا للمكتب التنفيذي لمنظمة اليونيسكو في باريس. وفي سنة ١٩٥٧ أثناء وجوده في المانيا، توفي ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه"كريت". كتب على قبره: (لا آمل في شيء.. لا أخشى شيئا.. ولا أتوقع شيئا.. فأنا حر!).

يقول كزانتزاكيس، إنه لو أراد أن يذكر الأشخاص الذين تركوا أثرا عميقا في نفسه لذكر: هوميروس، برجسون، نيتشه، وزوربا.. ويضيف أنه لو قدر له أن يختار مرشدا روحيا لاختار: زوربا.
وزوربا حسب المؤلف هو عامل مسن كان يحبه كثيرا، لتميزه بالنظرة الفطرية و البراءة الخلاقة، ولإيمانه بمعايشة الحياة وخوض تجاربها. يهتم زوربا بكل شيء موجود في الطبيعة: البحر السماء، الرمل الفراشات الرياح النار الخبز والنبيذ و المرأة ...الخ، ونظرته للكون تتجدد كل صباح، فينظر لموجوداته، بانبهار ودهشة النظرة الأولى.
تتميز هذه الشخصية بالحيوية والتجدد والإقدام والشجاعة، والقدرة على أن يسخر من نفسه ذاتها كما لو كان يملك داخله قوة أعلى من النفس. يمتلك ضحكة مجلجلة عميقة. يغلب عليه المزاح الذي يخرجه من حزنه أو من أي موقف يزعجه، وبذلك فهو يمتلك القدرة على التغلب على كل منغصات الحياة. تمكنت هذه الشخصية من تزويد المؤلف بطاقات روحية عجيبة، كما زوده بمعلومات مفيدة في الحياة والدين والموت والمرأة والغضب والحزن والكد والجد وتجاوز المصاعب.

ويبقى السؤال المطروح: هل كانت شخصية زوربا شخصية حقيقية كما يذكر كزانتزاكيس، وأنه التقاه في حياته وأعجب به، وقرر أن يكتب عنه؟ أم أنه شخصية أسطوية من صنع خيال الكاتب، وبالتالي فما هو إلا صوته الآخر؟

شخصيا، أميل إلى أن زوربا، ظِلُّ شخصية حقيقية لكنها ليست بهذه الصورة العميقة ، والأسطورية التي قُدِّم بها، فقد يكون زوربا يحمل ملامح شخصية عرفها المؤلف، لكنه أضفى عليها من خياله وإبداعه الكثير، والغرض من ذلك، تمرير أفكار المؤلف وفلسفته بطريقة مقنعة، أو على الأقل بطريقة فنية مختلفة. لذلك نجد زوربا في ثنايا الرواية، يمثل صوت المؤلف في الكثير من المرات. 

تناول نيكوس كزانتزاكيس في روايته، ثيمات متعددة؛ كالموت، الحياة، كيفية سرقة السعادة من الحياة. تناول أيضا، ثيمة الخلود وكيفية تجسيده في حياتنا، كما تطرق لثيمة الصداقة، وبدا أنه من الذين يعلون من هذه القيمة الإنسانية، ويحترمونها ويراعون شعور الصديق ويتفهمون اختياراته التي قد لا يكون راضيا عنها، تجلى ذلك مع صديقه "زوربا". عالج المؤلف كذلك، ثيمة الدين وتبين رفضه التام، ونفوره من رجال الدين، بسبب اتخاذهم للدين مطية لتحقيق مآربهم الشخصية. واهتم كزانتزاكيس بشكل واضح، بثيمة الحرية التي شكلت مدار الرواية وبؤرتها المركزية، إذ يبدو تقديس المؤلف للحرية والدفاع عنها.

وفي سبيل توصيل أفكاره، استعان كزانتزاكيس بعدة تقنيات سردية منها الحوارات الطويلة مع زوربا، وتقنية الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه "استافريذاكيس"، كما استعان بالأحلام من خلال احضار طيف صديقه في الصفحات الأخيرة من الرواية. بالإضافة إلى السرد الذي يعتبر الوظيفة الأساسية للسارد، حيث يقدّم السرد على لسان السارد/المؤلف المشارك في الأحداث، كما يمنح السرد لرواة آخرين كشخصية "زوربا " الذي يقدم السرد في صفحات طويلة، باعتباره شخصية أساسية، وإن كان من الواضح أنه يمثل الصوت الآخر للكاتب، الصوت المتمرد على الدين وعلى التقاليد وحتى على الحياة، إنها الشخصية التي تقوم بما يحلو لها دون مراعاة لأي أعراف أو حدود، وسيلتها الرقص والعزف على آلة القانون، والاستمتاع بالحياة إلى أقصى درجة ممكنة.

يكثر السارد/المؤلف من تقنية الوصف؛ وصف الشخصيات بأدق تفاصيلها، يصف وجه زوربا قائلا:(كان وجهه مليئا بالتجاعيد والخدوش وثقوب الحزن، وكأن رياح الشمال والأمطار قد اقتاتت عليه). كما يهتم كثيرا بوصف الطبيعة كعادة الكتاب الواقعيين في الروايات الكلاسيكية، الذين يهتمون بأدق التفاصيل، معتمدين على ما يسمى بالوصف الاستقصائي. يصف أيضا، الرقص بأدق حركاته، مثل وصفه لرقص الشاب في ص442. 

يعد الزمن أهم عنصر في الرواية عموما، لأن الرواية عالم من الأحداث والأفعال المرتبطة ارتباطا وثيقا بالزمن، لذلك يتغلغل الزمن في نسيج البناء العام لهذه الرواية، ويتحدد من خلال اللجوء في كل مرة إلى الزمن الفلكي، يبدو ذلك واضحا منذ البداية حيث تنطلق الأحداث مع بداية انبلاج الفجر، يقول السارد/المؤلف: (كانت المرة الأولى التي عرفته فيها، في ميناء بيرايوس(بيريه) وكنت قد ذهبت إلى الميناء كي أستقل باخرة إلى جزيرة كريت. كان الفجر على وشك أن ينبلج ، وكان المطر يهطل والرياح الجنوبية الشرقية تهبّ بعنف وقوة، وكانت المياه المتناثرة من البحر تصل إلى المقهى المحلي الصغير ، كانت أبواب المقهى الزجاجية مغلقة، وكانت تنبعث من الهواء رائحة بشرية نتنة، ورائحة نبات المريمية. كان الجو في الخارج باردا، وكانت ألواح زجاج الأبواب مغطاة بالصقيع المتجمد جراء الأنفاس المتلاحقة(من مرتادي المقهى). وكان خمسة أو ستة من الرجال العاملين في البحر سهارى طوال الليل، وهم يرتدون ستراتهم البنية اللون المصنوعة من شعر الماعز، كانوا يحتسون القهوة والمريمية، ويرنون إلى البحر من خلف ألواح الزجاج التي يكسوها الضباب)ص45.

يبدو زمن الرواية، منذ الوهلة الأولى وكأنه يسير متقدما نحو الأمام، إلا أننا نتلمس تداخلا في الأزمنة، من خلال حضور الماضي بشكل مباغت، فالسارد يحاول إيهام القارئ بأن فعل السرد يتزامن مع وقوع الأحداث، لكن الحقيقة تظهر أن المؤلف في حركة استعادة للذكريات، بالرجوع إلى الماضي من حين إلى آخر، فتبرز الاسترجاعات، كما نعيش حاضر السارد، من خلال معايشة رحلته إلى كريت مع شخصية "زوربا"...

يبرز عنصر الزمن في الفصل الأخير، إذ يبدو السارد/المؤلف وكأنه يسارع الأحداث لينتهي من قصته، فيلجأ إلى تقنية الحذف الزمني بشكل فعّال، من خلال اقتطاع فترات زمنية طويلة كما في ص٥٣٧ ، (مرت خمسة أعوام طوال، قاسية مرعبة تبدل فيها الطقس وتغيرت الحدود الجغرافية كأنها في حلبة رقص). يستغل السارد/المؤلف هذه الحذوف الزمنية، لينقل للقارئ أخبار الشخصيات ومصيرها، خاصة أخبار زوربا بعد اختفائه، تأتي المعلومات عن طريق الرسائل التي يبعثها زوربا إلى السارد، فيخبرعن سفره إلى رومانيا وصربيا، وزواجه وعمله كجرذ للنفط، كما يقول.

يعتمد السارد في تقديم الأحداث على ضمير المتكلم :(كنت آنذاك جالسا في أحد أركان المقهى، وأنا أرتعش من البد، فطلبت فنجانا آخر من المريمية إذا كان الوسن يداعب أجفاني، وكنت أقاوم النعاس..)ص47. وبلقاء السارد مع زوربا، تنطلق أحداث الرواية المشوقة، حيث يطلب زوربا من السارد اصطحابه إلى جزيرة "كريت" للتنقيب في المناجم، وبعد محاولات عدة، يقنعه بأنه سيكون رفيقا جيدا، وبدوه أعجب السارد بزوربا وبما يتصف به من طلاقة اللسان وسرعة البديهة، وشعر بأنه رجل على الفطرة ، صارم ومستمتع بحياته بطريقة مغرية ومختلفة، وله فلسفته الخاصة في الحياة. وفي هذا الفصل الأول، يدور حوار بين السارد/المؤلف وزوربا، فيتسلم زوربا زمام السرد، مقدما بعض تفاصيل حياته ومغامراته، وزواجه وتعلمه الموسيقى على يد"رجيب أفندي" الرجل التركي المسن، وشرائه لآلة القانون، كما يقدم أخبارا عن قريته..إلخ.
بالنسبة للسارد/المؤلف، نحن أمام رجل مثقف، وكاتب يهوى القراءة والكتابة، وهو الملقب من طرف صديقه "بجرذ الأوراق"، وقد اصطحب في رحلته هذه كتاب"دانتي" ليؤنسه في سفره. وجاءت رحلة السارد/المؤلف بعد نصيحة صديقه، الذي طلب منه أن يبتعد عن الحبر والأوراق، ويخرج إلى الحياة ليمارسها ويتعلم منها الكثير.

الرواية ومآلات التأويل:


من متابعة الأحداث والسرد، نتبين أن الرواية تعالج هواجسا إنسانية تنتاب السارد/المؤلف، يحاول طرحها بطريقة فنية جميلة على لسان شخصياته، خاصة شخصية زوربا وشخصية صديقه المقرب "استافريذاكيس".
تناول السارد طبيعة العلاقة بين الإنسان وربه والاعتقاد بوجوده، وما إذا كان الإيمان يسلبنا حريتنا؟ تجلى ذلك في حواره مع الفتاة. كما حاول السارد أيضا، الإجابة على السؤال: من أين جئنا؟ وإلى أين نحن ماضون؟ في ص483، وقد أورد السؤال على لسان زوربا، بعد وفاة المدام "أورتانس" خطيبته، وبعد أن حضرا حادثة ذبح الأرملة التي حاول زوربا الحيلولة دون قتلها لكنه فشل، وتم ذبحها من طرف القس الذي أقدم على ذلك، عندما رأى أن زوربا قد تمكن من أخ الرجل المنتحر، والذي قرر الانتقام من الأرملة، وسانده أهالي القرية ورجال الدير.. 

يمكننا القول، إن السارد ومنذ البداية، يحاول أن يقدم تفسيرا لأهم مفاهيم الحياة والوجود والسعادة والألم والحزن والموت، والحرية والمرأة التي اعتبر أنها كائن وإنسان مثلنا، كما قال زوربا. فزوربا هو الشخصية المكلفة من طرف السارد، لتجيب على بعض هذه الهواجس التي تؤرق الإنسان منذ وجوده إلى أن يسلم روحه للموت. 

وزوربا رجل أمي لم يتعلم في المدارس لكن الحياة والتجارب صقلته، ومنحته المعرفة والحكمة التي كان يقدمها في كل مرة، في ثنايا السرد على شكل وصايا، يوصي بها صديقه السارد المتعلم الذي لا تفارقه الأوراق والكتب، وملخص نظرة زوربا للحياة يكمن في أن، السعادة لا تمنح لك بل عليك نهبها من الحياة، والتمتع بها إلى أقصى حد تستطيعه. عدم الركون إلى الحزن فالحياة لا تتسع له. مجابهة الحياة وعدم الرضوخ لأي قوانين أوشرائع مهما كانت، وعدم التنازل عن الحرية. بالإضافة إلى اتخاذ الرقص في كل الحالات، وسيلة للتخلص من الألم الذي قد يتسرب إلى دواخلنا. 

برزت شخصية زوربا، كشخصية متميزة، فريدة من نوعها، وإن كانت نهايته غير متوقعة بالنظر إلى طبيعته الساخرة، ومزحه الذي طغى على السرد، لكن المؤلف أراد من هذه النهاية، تقديم حقيقة أخيرة، مفادها: أن الذين نحبهم كذلك نفقدهم بطريقة موجعة.


قدمت المرأة بصورة سيئة، ورغم أن زوربا قد أقر للسارد أن المرأة كائن وإنسان مثلنا، إلا أنها تعامل كشيء يحتاجه الرجل، وسرعان ما يستغني عنه، إنها مجرد جسد خلق للمتعة والاستمتاع بها، مع تحقيرها وشتمها بأفظع الصفات، وتحميلها مساوئ العالم، لأنها هي الشيطان وبؤرة الشر، هذه الصورة القاتمة التي قدمتها هذه الرواية عن المرأة، جعلتني أصاب بالغثيان، وقادتني إلى التساؤل : هل كان زوربا فعلا يقدر المرأة ويتعاطف معها، دون النظر إلى جمالها أوسنها؟ هل المرأة فعلا، كائن يحتاج فقط للعاطفة، والهمس في أذنها بحلو الكلام؟ هل التعاطف معها، يعني تلبية حاجاتها الجنسية فقط؟

في الصفحات (200)الأخيرة يتجلى تركيز السارد على رسم شخصية مدام "أورتانس "، ووصفها بشكل كاريكاتوري ساخر، والسخرية من ماضيها، وكيف صارت اليوم عجوزا تعسة حسب تعبير "زوربا" الذي لا ينفك يشفق عليها ليسعدها، لكنه لا يتردد في إطلاق أسوأ الصفات عليها، يقول:(لقد تأخرت الخنزيرة، لقد تأخرت الكلبة العاهرة لقد تأخرت الفاسقة العاهرة)ص423.  رغم كل ذلك، فقد حقق لها أمنيتها في إعلان خطبته لها، لكنه مع السارد يسخران منها ومن شكلها باعتبارها عجوزا. 

أعتقد أن المرأة، قد قدمت بأسوأ صورة يختزنها المجتمع في مخياله الجمعي، وينطبق ذلك على الغرب كما في الشرق، كما سبق وإن ذكرنا.


أخيرا، يمكن القول، إن هذه الرواية تحفة كلاسيكية، وجبت قراءتها، فقد استطاع كزانتزاكيس أن يقدم لنا عملا أدبيا متميزا، عميقا في أفكاره، بسيطا في أحداثه، يعتمد السخرية كملح للسرد الذي يجعل متذوقه لا يكتفي..

 لابد من التنويه، إلى أن ترجمة الرواية جيدة في عمومها، تتميز بالحس الشاعري الجاذب للقارئ، كما أن إحالات المترجم وشروحاته في الهامش كانت جد رائعة ومفيدة.


أجمل اقتباس:
قال زوربا للسارد:"لا لست حرّا؛ فالحبل الذي أنت مقيّد به أطول قليلا مما هو في حالة البشر الآخرين، وهذه هي حقيقة الأمر ببساطة"





ليست هناك تعليقات: